مادة التاريخ تُدرَّس لتخلق في نفس الدارس/ الطالب روحا، وتلك الروح قد تكون روحا انتمائية/ مكانية أو قومية أو وطنية أو معرفية.. هكذا يُقدر للمادة التاريخ، في بعديها السردي والنقدي أن تكون، وهكذا هي في البلدان الراكزة تعليميا وتربويا.
قبل مدة فاجأني ابني الصغير (12 سنة) عندما شاهد برنامجا يتحدث عن الحياة في ألاسكا الأمريكية وصعوباتها، فسرد جزءا من تاريخ هذه المنطقة، وفي سياق حديثه، قال ‘نها كانت روسية. فتداخل معه أخوه الأكبر (26 سنة)، وقال له إنها كانت مستعمرة روسية؛ لأن لا حدود مشتركة برية لـ”ألاسكا” مع روسيا القيصرية آنذاك، لكن الأصغر رد بأن هناك حدودا مائية بينهما. والجميل أنهما ذهبا مباشرة لجهاز الكمبيوتر من اجل البحث في المصادر ولتدقيق اختلافهما.
هذه الواقعة أذكرها هنا كشاهد على مفهوم (الوعي التاريخي)، وهو مفهوم ليس محصورا بالمؤرخ أو مدرس مادة التاريخ. الوعي التاريخي هو وعي مجتمعي بالتاريخ، التاريخ بمختلف متونه؛ المعرفية/ الحربية/ الصناعية/ الفنية.. وهذا الوعي ينشأ بطرق مختلفة، ولا يعتمد على طريقة التلقين المدرسية السائدة في منطقتنا العربية- الخائفة من التاريخ أصلا- فهناك المتاحف وهناك الحضور الميداني، أو الدرس الميداني والذي يذهب فيه الطالب إلى موقع المادة التاريخية، سواء كان موقعا حقيقيا أو بانوراميا مصنعا، وليدخل فيزيائيا في صلب محاكاة الأثر التاريخي. ولهذا نرى وعيا تاريخيا كبيرا عند المجتمعات الأوربية -مثلا- والأهم قبل كل ذلك هو: منهجيات وتدريس مواد التاريخ في هذه البلدان، وهي منهجيات تعمل على إبقاء نقد التاريخ محايدا وتصاعديا، حسب الصفوف المدرسية التي تسبق الجامعة، أي ليس هناك ترجيح كفة على أخرى لأقطاب المادة التاريخية المشكَّلَة درسا. فالنقد التاريخي تبدأ مراحله الفعلية المهمة مع الجامعة؛ لأن الطالب في هذه المراحل الجامعية قد تبلورت مدراكه النقدية بشكل معقول وكبير -حسب علماء النفس التربوي- ليكون بعدها قادرا على صياغة نقديته هو وقدرته في الرد على نقديات الآخرين.
أما في منطقتنا الإسلامية والعربية، فتبدأ عندنا مادة التاريخ مصمة بشكل تلقيني أيديولوجي، سواء بشكلها الديني/الطائفي أو الحزبي، وبطرائق فوقانية، وخالية من أي عناصر منهجية دافعة نحو وعي تاريخي عام. مادة التاريخ في مدارسنا هاجسها الأساسي يدور وينحصر في عنصرين، هما العنصر الديني/الطائفي، والعنصر السياسي، أما باقي العناصر فهي صفر وغائبة تماما؛ فليس عندنا تاريخ صناعات وزراعة وحرف وليس عندنا تاريخ فنون.
هذا الغياب كله، جعل وعينا التاريخي، وعي باهت وغير مؤثر ولا قيمة له، وهذا ما نستطيع أن نتحسسه -مثلا- في العراق، والذي تخربت كل أثاره القديمة والحديثة وفي مختلف العناصر والمتون ولا يرف لشعبه جفن ويحزن لهذا التخريب، فهذا هو المجتمع العراقي الخالي من أي وعي تاريخي يرقص طربا عندما يرى مولا قد شُيّد؛ لكنه لا يعرف مثلا على أي أنقاض إرثنا المعماري أو الصناعي قد شيد هذا المول التجاري(!). عناصر تاريخية مدينية تُخرب وتُهدم لتحل محلها مولات، والشعب لا يحس ولا يتألم ولا يرفض، وشوارع وأحياء تاريخية تهمل؛ لأنها قد تكون مسماة بأسماء مرفوضة إيديولوجيا من مجموعة سياسية حمقاء لا تدرك أهمية ‘إرث العمارة وهندستها التاريخية’ في خلق الروح الوطنية المنتمية للمكان. هذا العراق بلد بلا وعي تاريخي، بلد كاره لكل ما هو تاريخي كلاني؛ لأن شعبه بلا وعي تاريخي مطلقا.
ملاحظة: الشعب ليس النخبة، وعي النخبة التاريخي لا يمثل الوعي التاريخي لعموم الشعب، الأمران مختلفان.