على الطريقة الروسية بالمقامرة يُلعب الروليت الروسي بمسدس ذي البكرة السداسية، بوضع رصاصة واحدة فيه، ثم يتم تدويره عدة مرات، حتى يصعب الاستدلال عن مكان الرصاصة في “البكرة”، وبعدها يتناوله المقامرون على حياتهم، ويوجهه واحد بعد الآخر لرأسه ويطلق النار، وهنا يأتي دور الحظ والصدفة، فإما أن تخرج الرصاصة لتهشم دماغ المقامر، أو يفلت منها، ويختلف عدد المقامرين حسب الموقف، ويبدأ من مقامر واحد يحاول اثبات شجاعته، الى عدة اشخاص قد يصلون إلى ستة اشخاص، وفي هذه الحالة لا بد أن ينتهي الرهان بموت أحدهم حتماً، وهذا النوع من الرهان يُلجئ اليه لأسباب مختلفة، منها قتل الملل، أو اثبات الشجاعة، أو تسوية عادلة لخلافات حادة بين المتراهنين.
وفي النهاية لا يُتعجب من ابداء الناجي (أو الناجين) للفرح وإظهار الفوز، فهو بكل الحالات الممكنة أثبت شيء ما، فهو أولا أنقذ حياته الشخصية، ومعها اثبت شجاعته بكل تأكيد، وخلاصه من مشكلة أو موقف حدي كان يشكل معضلة لاستمراره بالحياة.
وما يميز هذه الطريقة بالرهان، أنها تتم على أساس الموافقة بين الأطراف المشاركة فيه، او على الأقل تواطئ يستجيب فيه الأطراف لقوانين هذا الرهان ونتائجه حتى لو على مضض، فتصبح نتائجه أيضا متوافق عليها مهما كانت.
لكن ماذا لو كان هذا الرهان على الحياة مفروض بلا أي مقدمات، ينزل فجئة من السماء، ليكون موت بلا حساب، وعلى عدد غير محدود بواحد أو أثنين ولا حتى ستة اشخاص، بل يمتد لملايين الأشخاص محاصرين في مكان واحد ويحصد منهم في كل مرة المئات بلا تمييز بين كبير وصغير، امرأة أو رجل، مقاتل أو مدني!!
وهنا انا اتحدث بوضوح عن الفلسطينيين الغزاويين بالتحديد وهم يستقبلون خبر وقف إطلاق النار بعد 466 يوم من القتل والتشريد، فكيف يمكن قياس ردة فعلهم، وماهي الرسائل الممكن تلقيها من ردة الفعل هذه؟!
مبدئياً هناك جهتين سيكون لها دور واضح في تفسير وقف إطلاق النار واستقبال ردة فعل الناس المبتهجة، الجهة الأولى هي المناصرة لحماس وخطواتها، والجهة الثانية هي المعرضة والناقمة، والتي قد تكون منتظرة لفنائها.
نبدأ مع الجهة الثانية، والتي قد تصاب ببعض الانكار عندما ترى الجموع المبتهجة بتوقف اطلاق النار، وتحاول التقليل من هذه الفرحة بواسطة لغة الأرقام والمقارنات “العقلانية” لمعنى الانتصار والهزيمة! ولهؤلاء أقول ان هذه جموع لا تحتفي الا بنجاتها من رهان الموت الذي لم يختاروا أن يزجوا أنفسهم به، او على الاغلب فأن اغلبهم لم يختر، لذلك من حقهم هذه الفرحة لأن قرعة الموت لم تنزل بهم طوال هذه السنة والثلاث أشهر، صحيح انها حصدت أهلهم واصدقائهم، وهدمت منازلهم، وقد تكون هذه الحرب انهت مستقبلهم لعشرات السنين، لكنها غريزة البقاء ولا يمكن ان تدان هذه الغريزة النابعة من الحق الذي من المفترض انه مصان موفق كل الشرائع الألهية والبشرية ولكنه قد انتهك طوال تلك المدة.
حتى أن نشوة هذا الفرح قد تغيب امامهم حقيقة الواقع المؤلم الذي ينتظرهم اذا افترضنا جدلا ان الحرب وقفت فعلا، حقيقة ان لا مستقبل قريب مشرق ينتظرهم، فمنازلهم مهدمة ومدارسهم ومستشفياتهم ما بقية منها أصبحت المأوى الوحيد الذي يمكن ان يلوذوا به من البرد والحر وما بقي منهم فالخيم ستبقى هي المأوى الوحيد، ولا نتصور انهم ينسون ذلك، وهم يعيشونه كل لحظة، لذلك لا مجال ان نعتب عليهم عند رؤية هذه الابتسامة العابرة بسبب توقف ازهاق ارواحهم.
اما الجهة الأولى، والتي قد تكون الان هي صاحبة الصوت الأعلى في الابتهاج بانه الانتصار الذي تحقق ضد العدوان مطلقة شعارات الصمود واستمرار المقاومة والطريق المعبد الى القدس، الى اخره من الشعارات المماثلة، أوجه لهم هذا السؤال البسيط جداً، النصر يجلب معه الشعور بالتفوق اكيد، وقد يستلزم معه رغبة في الاستمرار، فهل انتم مستعدين لرؤية سنة أخرى من هذه الحرب التي تقولون انكم انتصرتم بها؟ هل انتم مستعدين لتعريض الباقين من اهل غزة لهذا الموقف وبتفاصيله اليومية التي شاهدناها طوال تلك الفترة لتحققوا نفس النصر؟ لا انتظر جواب على هذا السؤال، فهو سؤال للتأمل لا للمناكفة.
لكني استخلص نتيجة بسيطة، وهي، لا حق لكم في سرقة فرحة من وقع عليهم الموت وكانوا تحت مقصلة جلاد الروليت الإسرائيلي يحصد ارواحهم ويضيع مستقبلهم ويدفن احلامهم بسلاح اعمى لا يعرف سوى نثر أجساد من يقع عليه خيار الموت، وفي نفس الوقت كان هؤلاء المتحمسين الان ينعمون بدفء بيوتهم وامان مدنهم البعيدة عن هذا الصراع والقتل.
في هذه اللحظة السكوت هو أفضل خيار لنخلي ساحة القول والتعبير لمن غُيب صوته تحت ركام البنايات وجنازير الدبابات، وإذا احترم الإسرائيليين الاتفاق وتوقف هذا القتل فعلا قد نبدأ جميعا في التفكير باليوم التالي ونفتح كل القضايا للنقاش والذي يجب أن يكون فعلا نقاش عقلاني نقدي لا ايدلوجي اعمى ينظر للأمور أما ابيض أو اسود أما مع أو ضد. فتحت هذه النظرة الدوغمائية تحولت ارقام القتلى الى مجرد أداة لترامي الاتهامات والصراعات بين المتناقشين بلا أي احترام لمصائبهم المستمرة. لقد غُيب الانسان الفرد كمركز للحق، وصار الحق للشعار والفكرة وليذهب الانسان وحياته وكل أحلامه إلى الموت مادامت الفكرة باقية وتنتشر، هذا كان شعار المرحلة، والذي يتحمل مسؤوليته الجميع بلا استثناء، المعارض قبل الموافق.
ويا للعجب فحتى في هذه اللحظات التي يبتهج بها الناجون من روليت الموت، بدا أنه لم يتوقف فقد حصدت الغارات الإسرائيلية بضع عشرات أخرى من الفلسطينيين، الذين قد يكونوا من المحتفلين في نفس اللحظة الذي سقطت عليهم القنابل معلنة أن مصير هؤلاء الملايين المحصورين بمنطقة الموت هذه لم يحسم بعد، ومازالت آلة الحرب لم تشبع من دمائهم بعد.