التظاهر والاحتجاج هو اعتراض على إدارة الحكومة للملفات التي لها تماس مباشر مع حياة المحتجين، ما يعني سحب المحتجين للتفويض الذي منحوه للحكومة لإدارة شؤون البلد من خلال صناديق الاقتراع التي كشفت الانتفاضة حجم التلاعب فيها وتغيير إرادة الناخب الحقيقية من خلالها، بكلام آخر، لو كانت الانتخابات السابقة نزيهة وشفافة وتعكس فعلا إرادة الناخب لانعكس ذلك من خلال نتائجها ولما لجأ الشباب الى التظاهر للتعبير عن إرادتهم الحقيقة، ولغابت وجوه كثيرة عن واجهة المسرح السياسي خاصة تلك التي يتهمها المحتجون بالفساد وهي كثيرة، ودول العالم المتحضرة إختارت المسار الديمقراطي والإنتخابات النزيهة بديلا عن اللجوء الى العنف من أجل تغيير السلطة، الأمر الذي لم يحدث في كل الإنتخابات العراقية بإستثناء الإنتخابات الأولى التي كانت تدار من مفوضين مستقلين فعلا، لكن كان الخلل حينها في قانون الإنتخابات الذي فصل على قياس الأحزاب المتنفذة في حينها، لذا ستبقى لغة العنف بديلا جاهزا إذا بقيت إرادة المواطنين بالتغيير لا يمكن تحقيقها من خلال مفوضية إنتخابات غير مستقلة وقانون إنتخابات مفصل ليخدم بقاء الطبقة السياسية التي يراد تغييرها.
كشفت انتفاضة تشرين كذبة تمثيل الطبقة السياسية للمكونات الإجتماعية التي تدعي ثمثيلها، وهشاشة الأسس ألطائفية والإثنية التي تأسس عليها النظام السياسي بعد 2003، فالمحتجون هم من مناطق الوسط والجنوب ذات الأغلبية “الشيعية” التي أريد لها أن ترضى بقسمتها من تقاسم السلطة بأن يكون رئيس مجلس الوزراء ونصف طاقمه منها، ولو لا تهم البعث والقاعدة وداعش الجاهزة لكل من يرفع صوته ضد الحكومة “الشيعية” لخرج كل شباب المناطق ذات الغالبية “السنية” التي تدعي بعض الأطراف تمثيلها لها ولطالب بما طالب به شباب الوسط والجنوب ولما إستثنوا أحدا من ساسة “السنة”.
قلنا مرارا وتكرارا إن شعب العراق لم يناضل ضد نظام صدام بسبب مذهب صدام حسين، هذا تلميع للنظام السابق ومديحا له، بل كان يعارض النظام السابق لأنه كان نظاما دكتاتوريا قمع الحريات العامة والخاصة ونكل بأبناء البلد، ولم يسلم من ظلمه حتى أقرب المقربين له (أزواج بناته مثالا) أما إدعاء بعض الأحزاب الدينية التي كانت تشكل جزءا من المعارضة السياسية للنظام السابق بأنها كانت مضطهدة لأنها كانت “شيعية” هو دليل على إفتقارها الى خطاب وطني يمكن أن يجمع “السني” المحسوب على النظام السابق حتى لوكان معارضا له، و”الشيعي” الذي تدعي تمثيله وإن كان يعمل بأجهزة النظام السابق القمعية.
محاولة بعض القوى “الإسلاموية” في المماهاة بين الإسلام وبينها، ومحاولة استغفال المواطنين البسطاء عبر الظهوربمظاهر الورع والتعبد واتباع (آل البيت) وخاصة خلال أوقات تأدية بعض الشعائرالدينية التي لها رمزية خاصة عند “الشيعة” ومنها زيارة الأربعين من خلال لبس السواد وتوزيع (السندويجات) على الزائرين، لم تعد تنطلي على المواطنين مع كل هذا الصخب المتصاعد منذ الايام الأولى عن فسادها وفساد وزراءها الذين لم يتجرأ حزب واحد منها على محاسبة أي منهم قبل أن ينفضح فساده ويصبح السكوت عنه ولملمة فضيحته أمرا مستحيلا، كما حصل مع عبد الفلاح السوداني، وصلاح عبد الرزاق وإنعكس ذلك جليا من خلال الهتاف الذي رفع في تظاهرات 2015 والإحتجاجات الأخيرة (بسم الدين باكونا الحرامية).
دلت الأحداث السابقة والإحتجات الأخيرة على عجز الحكومات السابقة والحالية عن الإقتصاص من الفاسدين الكبار، بل كشفت الإحتجاجات الأخيرة إستعداد منظومة الفساد للتضحية بعشرات الشهداء وآلاف الجرحى من المواطنين المطالبين بأبسط حقوقهم على أن تضحي بفاسد كبير واحد، ما يؤشر قوة منظومة الفساد وضعف الحكومة الذي إنعكس على مجمل كيان الدولة، فالدولة الآن- وليس الحكومة فقط- أضعف مما كانت عليه قبل واحد تشرين 2019، ويزداد ضعف الحكومة ويصبح فاضحا حين تنسب قتل المتظاهرين الى “قناصة” لا علم لها بوجودهم، وغير قادرة على القاء القبض عليهم وتقديمهم إلى العدالة، ويتحول الأمر إلى “مهزلة” حين تعلن اللجنة المكلفة بالتحقيق بالحوادث التي رافقت الإحتجاجات عن “ساعات” لكشف تقريرها الذي ظهر إلى العلن بعد أربعة أيام ضبابيا خاليا من الأدلة والوثائق والشهادات العيانية ومن الإشارة الى الجهات التي من الممكن أن تكون قد شاركت بقتل المتظاهرين.
أظهرت الإنتفاضة خلو الساحة السياسية من حزب سياسي ذو خطاب وتوجهات وطنية عابرة للطائفية لا تقف خلفه شخصية أو جهة دينية يمكن أن يستقطب هؤلاء الشباب ويكون معبرا عن إرادتهم، ورغم إن هذه قد تبدو سمة جيدة، لكنها في الواقع تعكس خواءا سياسيا يكاد أن يكون عقيما، ساهمت في خلقه الطبقة السياسية ذاتها عبرتنامي رد الفعل السلبي على كل كل ما يمت الى التحزب بصلة لإقتران ذلك عند الغالبية من الشباب بالفساد والتدين الكاذب والوطنية الزائفة.أنصح الناشطين المدنيين أن يتقاربوا أكثر فيما بينهم في بغداد والمحافظات الأخرى، وأن يؤسسوا نواة لحزب وطني يعبر عن إرادتهم الحقيقية ويكون ممثلا عنهم، على أن يكون تغيير قانون المفوضية وقانون الإنتخابات أهم ما يدعون إليه في قادم الايام، عسى أن يكون ذلك تأسيسا لإنتخابات قادمة نزيهة تعكس نتيجتها إرادتهم السياسية.
من المنتظر أن تستأنف حركة الإحتجاج بتاريخ 25 من الشهر الجاري، وقد تكون أوسع نطاقا، وسيلتحق بها أتباع التيار الصدري الذي أتمنى أن لا يضع نفسه ناطقا عنها، سيما وإنه يستطيع من خلال نوابه الدعوة الى انتخابات مبكرة بمفوضية إنتخابات مستقلة فعلا وبقانون إنتخابات منصف بإشراف أممي، بذلك يمكن أن يساهم هو ومن يدعي من باقي الكتل حرصه على تلبية مطالب المتظاهرين في إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.