لن يختلف اثنان على ان التعليم في العراق بكافة مراحله يمر بأسوأ أحواله منذ ان انشئت المدارس الحديثة مع نهاية القرن التاسع عشر لتكون بديلا عن تعليم الملالي والكتاتيب في الجوامع والحسينيات بجهود طلائع المتعلمين الاوائل وجلهم كانوا من المسيحيين واليهود،وتشير المصادر بهذا السياق الى افتتاح اول مدرسة حديثة في عهد الدولة العثمانية عام 1861م في ولاية الموصل، وكانت تضم صفوف ابتدائية ورشديّة.
الأمثلة على بؤس المستوى الذي انتهى اليه التعليم كثيرة جدا، بعضها تحول الى مايشبه الفضيحة عندما تم نشرها على صفحات الفيس بوك وتداولها المعلقون بعبارات ساخرة،على سبيل المثال هناك من انهى مرحلة التعليم الجامعي وتخرج من كلية القانون واصبح يمارس مهنة المحاماة مع انه لايتقن ابسط قواعد الاملاء والكتابة،فيكتب في احدى الدعاوى التي رفعها للقضاء كلمة(نحنو) بدل (نحن) ويمكن القياس على ذلك بهذا النموذج.
في مقابل هذا الواقع المتدني الذي يشهده قطاع التعليم ارتفع سلم رواتب الهيئات التعليمية من معلمين ومدرسين واساتذة جامعيين، ارتفاعا واضحا وبشكل غير مسبوق،بالشكل الذي بات يوفر لهم حياة كريمة بالقياس الى ماكان عليه حالهم قبل العام 2003 خاصة خلال عقد التسعينات .
هناك عديد الملاحظات التي تسجل ضد المناهج التعليمية تحديدا ،خاصة في المرحلة الابتدائية،هذا اضافة الى تخلف اساليب وآليات التعليم والشيوع العلني للغش بين الطلبة،والرشوى بين اوساط الكثير من المعلمين والتدريسيين،بما يعني انهيار منظومة القيم، خاصة في المدارس الحكومية،ولم يعد ممكنا من الناحية الواقعية اجراء اية مقارنة في مستويات ومناهج التعليم المدرسي والجامعي مع دول الجوار التي شهدت نموا وتطورا ملحوظا،وهذا ما ادى الى غياب الجامعات العراقية من قائمة المؤشر العالمي لترتيب أفضل الجامعات في العالم لعام 2019،والذي أصدرته مجلة “تايمز هاير إديوكيشن” البريطانية،ويبحث مؤشر القائمة في تقييم 1250 جامعة في شتى أنحاء العالم،من حوالي 88 دولة مختلفة،استنادًا على خمسة معايير رئيسة.
في اليومين الماضيين شهدنا تظاهرات للاسرة التعليمية في بغداد وعدد من مدن العراق وكنا نتوقع ان تحمل قدرا من المسؤولية المهنية للضغط على وزارة التربية والحكومة لتغيير المناهج وتطويرها لاجل الارتقاء بالمستوى التعليمي،لكننا لم نلمس مثل هذا المسعى في جميع الشعارات التي رفعها المتظاهرون وانحصرت في اطار زيادة الرواتب .
فما الذي سيكون عليه الواقع التعليمي اذا كان لسان حال جميع طبقات المجتمع وشرائحه ونقاباته تردد هذه الايام في السر والعلن” اذا كان الهاربون من البلد ايام المحن، والساسة الفاسدون، ومعممون طفيليون، وزعماء ميليشيات يتلقون اعلى الرواتب والامتيازات وينهبون المال العام،فما بالنا نحن ؟”.
في اللحظة التي نجد فيها “الكتلة الثالثة” تخرج في تظاهرات من اجل المطالبة بالعدالة الاجتماعية لعموم المواطنين ورفع الحيف عن شرائح مجتمعية تعاني من الاهمال من قبل الدولة والنظام مثل الكسبة وعمال الاجر اليومي والعاطلين عن العمل،عندها يمكن القول بان المجتمع العراقي قد خرج من بؤس المرحلة القبلية والعشائرية والطائفية الى مرحلة المجتمع المدني المتحضر،وما نراه اليوم ليس الا تظاهرات عشائرية ولكن تحت عناوين نقابية. ومصطلح الكتلة الثالثة سبق ان اطلقه الفيلسوف الالماني/الاميركي هربرت ماركوزه (1898 – 1979)، ويعني به الشرائح والنخب المثقفة والمتعلمة التي تمارس وعيا نقديا لمؤسسات المجتمع في سعي منها لبناء الدولة وتصحيح مساراتها بعيدا عن حسابات الربح والمصالح الفئوية الضيقة،وافضل من يمثلها المعلمون والمدرسون والاساتذة الجامعيون والاطباء والمهندسون والموظفون، وهؤلاء من وجهة نظره اليسارية اداة التغيير بدلاعن طبقتي العمال والفلاحين، وكان لهذا التوصيف من قبل ما ركزوه اثر جوهري في قيام الثورة الطلابية التي اجتاحت فرنسا ومن ثم اوربا عام 1968 بهدف تغيير الفلسفة التعليمية في المدارس والجامعات .