بعد مشاهد درامية، انتظر العديد من العراقيين ظهور السيد حيدر العبادي على المسرح الوطني بسردية جامعة، وإذا به يعيدنا ١٣ سنة الى الوراء، بخلطة شبيهة بتلك التي انتجت عام ٢٠٠٥، لكن هذه المرة في ظروف داخلية واقليمية وعالمية أكثر هشاشة وخطورة، وفي سياق ازمة هوياتية ومجتمعية هزت شرعية الاحزاب الاسلامية في السلطة منذ أكثر من عقد. بعد ثلاث سنوات من حرب التحرير ضد داعش، وامام التساؤل الكبير الذي يؤرق الكثيرين في الداخل والخارج: اي عراق متصالح مع نفسه نريد؟ يقود رئيس الوزراء من جديد أكبر تجمع سياسي بلون يراه البعض طائفيا (وهكذا يراه العالم اليوم)!
بعد صراع مع الكورد حول شرعية الاستفتاء من عدمه (حتى مساء أمس الأول السبت)، كرر رئيس الوزراء أنه سيقاتل من اجل وحدة التراب العراقي والوطنية العراقية ومساواة المواطنين امام القانون والنأي بالنفس، وانه يعد مع “أشقائه الخليجيين وبالتحديد الكويتيين” لأكبر مؤتمر للمانحين المحليين والدوليين لدعم العراق واستقلاله، ليعلن وسط ذلك الجو الاحتفالي عن تشكيل «تحالف النصر»، ولم تمر أكثر من ٢٤ ساعة حتى أعلن مساعدو العبادي ترأسه لأكبر تحالف سياسي – مذهبي لإدارة الشأن العراقي المتعدد والمركب للسنوات الاربعة القادمة. ليس هذا فقط، بل كشف الصراع الداخلي في حزب الدعوة الحاكم عن حرب ضروس، تم التلاعب فيها بالقانون والشأن العام، في وقت ينتظر فيه العراقيون رسائل تسامح وشفافية ومكافحة الفساد.
لم يكن السيد العبادي وحيدا في انتصاره للهوية الطائفية او الاثنية على الهوية الوطنية، فالجبهة السنية (رغم تحالفهم الجديد – القديم مع السيد اياد علاوي) هم في حالة شبه انهيار، وحسب كل التقديرات فان عقدهم السياسي سينفرط كما في السابق حال انتهاء الانتخابات، بين معارض راديكالي، واصوات محلية «منفتحة» على التفاوض حسب الحاجة، وبين «اعيان وامراء محليين» ممن شرعن لنفسه أن يكون جسرا مريحا بين «طائفته ومنطقته» والمركز بغداد!
في حين، يعيش الكورد احدى أعنف ازماتهم البنيوية، التي لم يروا مثيلا لها منذ سنوات. قد يتحسن وضعهم إن أبدوا أولا اهتماما أكبر ببيتهم الداخلي، وادخلوا اصلاحات عميقة، وشيئا من الشفافية والعدالة في توزيع الثروات. عندها فقط سيتعاطف معهم العالم من جديد، وربما يتفهّم مطالبهم امام ما يسمونه “تمادي” بغداد العبادي بتناغمه مع إيران على حساب مصالح العراق المتعدد وبلدان المنطقة، وعلى حساب واشنطن ذاتها.
يحصل كل ذلك في منطقة شرق أوسطية متحركة، بل وملتهبة، فبدلا عن تحالف عراقي عابر للهويات الضيقة والانانية وإذا به يعيد انتاج اصطفاف طائفي يبعث على الاستغراب، ويبقي البلد في فضاء لا يمكن التعبير عنه الا عبر “مكونات” مذهبية واثنية مسيسة ارادويا.
تحدث البعض عن «توافقات وتفاهمات» سياسية ايرانية – امريكية استمر الحوار بشأنها حتى الايام والساعات الاخيرة. وحسب العديد من المراقبين، كان دور الجنرال الايراني قاسم سليماني واضحا في تقريب وجهات النظر بين تحالفي «النصر» و«الفتح المبين»، وتكللت جهوده أخيرا بالنجاح. التحدي الايراني القادم في العراق ليس بتحويل جارته الغربية الى ساحة حرب مع الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا، بل في كيفية الاحتفاظ بالمكاسب التاريخية التي حققتها إيران منذ سنوات. من هنا جاء قبولها بالسيد حيدر العبادي رئيسا للوزراء، شرط اعطاء الحشد والفصائل القريبة منها دورا سياسيا مهما. هذا في وقت تدرك فيه إيران بأن المردود الانتخابي للحشد أضعف من بريقه السياسي والعسكري.
امريكيا، ورغم راديكالية تلك الفصائل ظاهرا، فان واشنطن ترى بأن ممثلي الحشد الشعبي (التي تسميها ميليشيات) أكثر براغماتية، وانضباطا، وبالتالي فانهم يخضعون لآليات تحكّم داخلية وخارجية تديرها إيران.
الايرانيون مهووسون بوحدة البيت الشيعي العراقي، ومن الافضل لهم ان يكون «متناسقا» مع البيت الشيعي الايراني وسياسته الاقليمية في المنطقة (فشل حتى آية الله العظمى السيد الشاهرودي من تحقيقه خلال زيارته الاخيرة لبغداد والنجف). اما الامريكان، فلم يتخلوا عن مقاربتهم الثقافوية عند النظر لطبيعة المجتمع العراقي: هم يرونه منذ الخليقة على شكل “مكونات” مذهبية واثنية “أولانية”، شيعية وأخرى سنية وثالثة كوردية! هذه المقاربة بالتحديد هي التي قادتهم لتفاهمات حتى مع طهران قد تبدو للبعض عجيبة. وبما ان ادارة الملف العراقي ليس في البيت الابيض (بل بيد وزير الدفاع جيمس ماتيس)، فالأمر قد يستمر على هذا المنوال لبعض الوقت.
كل حسب مصلحته ومنطلقاته المتباينة، التيار الصدري وحلفائه الجدد من المدنيين يشكلون بالنسبة لطهران وواشنطن خطابا عراقيا مستقلا، وبالتالي يجب «تحجيمه». أما السيد نوري المالكي (وحسب معطيات اليوم)، فانهم يرونه ضعيفا بمقاسات التعبئة السياسية والقدرة على احداث “تغيير”، غير أن الكتل السياسية هذه، الشيعية باختلافاتها، والمجاميع السنية المتحالفة مع اياد علاوي الى جانب التمثيل التاريخي الكوردي، بمقدورهم اعاقة ومواجهة عمل السيد العبادي اللاحق، لدرجة قد لا يجد ملاذا الا عبر التماهي اكثر داخل الفضاء السياسي – الطائفي المغلق اصلا (الهوية المذهبية دائرية بطبعها)، كما ان وجود حفنة من الشخصيات السنية (سيوصفون بسنة العبادي كما وصفوا سابقيهم بسنة المالكي: من العبيدي، والهميم، واللويزي، والفهداوي، الخ) لا تغير من طبيعة المشهد السوسيو – سياسي، ولا تبدل من لونه المذهبي: حيث يسمى تحالف العبادي – الحشد – الحكيم القريب من طهران (كما فعلت وكالة روترز يوم أمس)!
هناك فوارق جوهرية بين تجربة دولة القانون التحالفية عام ٢٠١٠ وبين خلطة كتلتي النصر – والفتح عام ٢٠١٨: في الاولى، تركزت طموحات المالكي على امكانية خلق مشهد سياسي جديد وانتاج سردية عراقية تُفرض من اعلى هرم السلطة على بقية اجزاء المجتمع، حتى ولو كانت في الغالب بأدوات قسرية/ وصولات عسكرية (من هنا تم التركيز على شخصية المالكي وليس حزب الدعوة). أما في الحالة الثانية (تحالف العبادي – الحشد) فالأمر بالمقلوب: لا تقر منهجية العبادي حتى اللحظة بإمكانية الوصول للمشترك الوطني العام الا عبر التحكم والتسيس الدائم للهوية المذهبية، وان زمن الفضاء العراقي المشترك ربما لم يحن بعد، وبالتالي، لا يقبل السيد العبادي بتفويض الاطراف حتى القليل من السلطات، دع عنكم تقاسمها (اللامركزية الحقيقية والفيدرالية).
بتحالفه الجديد، يبدو السيد العبادي كقاطرة تجرها عربتان في اتجاهين مختلفين: فمن جهة نراه يلوح بعراقية خطابه، وتأكيده الدائم على وحدة اراضي الوطن، ومن جهة اخرى يظهر رضوخا لـ«أسبقية» الخاص على العام في إدارة السياسية والسلطة مقابل احتفاظه بنواة حكم طيّعة. لا يمكن اعتبار ما تحقق بالأمس، مكسبا للعملية السياسية، وضمانة لعراق مستقر. فبعد ١٤ عاما من سقوط نظام صدام حسين، لم يجد العراق بعد رجل دولة قادر على تبني خطاب جامع، يضع مصلحة المجتمع والمواطنين في مقدمة اولوياته، رغم ذلك فالتاريخ لم يكتب بعد، ولازالت تفصلنا اربعة أشهر عن الانتخابات القادمة، وكل شيء سيصبح ممكنا لو احترم القانون مع شيء من الشفافية ومراعاة قواعد اللعبة الانتخابية.
د. هشام داود باحث في الانثروبولوجيا السياسية في المعهد الوطني الفرنسي للبحوث العلمية