لو كان بالامكان لاستبدلت هذا الرأس بعملية جراحية وتخلصت من عذاب الذاكرة.
دون سابق انذار، وجدتني أتارجح وادور في دوامة اسئلة: كيف لكائن مسالم مثل صديقي عماد ان يطوي ايامه في زمن كهذا؟ كيف واجه تلك الايام العصيبة التي سيطر فيها تنظيم الخلافة على الموصل؟ لم يخطر على بالي مطلقا فكرة موته. ولا أعرف ما السبب الذي جعلني استبعد هذه الفكرة، مع أن الأشخاص المسالمين دائما ما يكونون أول الضحايا في زمن الحروب.
عماد لم يكن يشبهنا في شيء نحن زملاؤه الاربعة في مرحلة الخامس الأدبي في ثانوية عمر بن الخطاب، يونس صديق، وجمال محمد عبدالله، وعبدالرزاق ابراهيم، وانا.. كنّا على النقيض منه تماما، لم تقف أمام عواطفنا وأحلامنا أية حدود، حاولنا مثل المجانين اكتشاف العالم، بما نكتبه وما نهذي به من احاديث في السياسة والفن والادب والحياة، دخلنا في تجارب كثيرة، وخرجنا منها بافكار تركت فينا اثرها العميق، ورغم انه كان يختلف عنّا بما كان عليه من التزام ديني إلاّ أننا كنا نثق به كثيرا، ونسعد بوجوده بيننا، لانه كان على فطرته، هذا اضافة الى انه كان قارئاً نهما للكتب التي تتعلق بعلوم الدين.
لا أتذكر في يوم ما انَّه قد عبَّر عن انزعاجه عندما نتعمّد ان نتحرَّش به على سبيل المزاح، خاصة عبد الرزاق الذي لم يكن تنقصه الخبرة في كسب ودِّه وثقته لغلبة صفات الشجاعة والطيبة والمروءة عليه، رغم انه كان مدمنا على شرب الخمر ويفرط في اقامة علاقات حميمة مع نساء من شتى الاصناف، عذراوات، نساء متزوجات، ارامل، مثقفات، رباب بيوت، عوانس، المهم بالنسبة له ان تكون حياته مشبعة بالخمر والشعر وانفاس النساء، وكان يطيب له ان يمزح مع عماد باحاديث حول قصصه الغرامية والمفاجآت التي صادفته معهن في ساعات متأخرة من الليل. ولم يكن عماد يملك القدرة على ان يتحكم بمشاعره فيغرق في نوبة من الضحك ويحاول ان يداري خجله وهو يردد “استغفر الله، استغفر الله”.
لم تفلح كل محاولاتنا لاقناعه بالمجيء معنا الى السينما او المقهى او اي مشوار خارج المدرسة، لانه يعتبر ذلك هدرا للوقت، فكان يعتذر بشكل مؤدب، عندها يقتنع عبد الرزاق بان لا جدوى من الاستمرار في اقناعه بينما نقف نحن على بعد امتار ننتظر أن ينهي مزاحه معه،وقبل ان يلتفت عائدا الينا يخاطبه بجملة ظل يكررها عليه بعد كل محاولة فاشلة لاقناعه وهو يبتسم “إلاّ أجيبك يا عماد على طريقنا المستقيم، وأضمّك للعصابة، قسما بحُبي الوحيد أميرة”.
ثلاثة عقود مرت على تلك الايام،تبدو لي الان وكأنها طيف، مرَّ سريعا في حياتي.. أكثر ما يحزنني هذه الايام انني لم اعد اشعر بتلك السعادة الداخلية ايام كنت التقي اصدقائي يوميا، خاصة عبد الرزاق، لأنه ودع الحياة قبل خمسة اعوام بعد ان تشمع كبده نتيجة إدمانه على الكحول، وقد تضاعف هذا الشعور بالخواء فجأة، ما إن علمت ليلة امس بان عماد هو الآخر لم يعد موجودا بيننا، بعد ان سقطت قذيفة هاون بالقرب منه، بينما كان يقف امام باب بيتهم في منطقة النبي شيت مع عدد من افراد الشرطة الاتحادية الذين كانوا يخوضون قتالا شرسا من بيت الى بيت ضد عناصر تنظيم دولة الخلافة اثناء تحرير الموصل القديمة. كانت إصابته شديدة حيث تلقى عددا من الشظايا الناعمة جدا التي اخترقت جبهته ووصلت الى الدماغ، كما مزّقت شظية كبيرة رُكبَتَه اليسرى وتركت فيها جرحا عميقا بطول عشرة سنتمترات، ولأن حالته كانت خطيرة تم نقله الى وحدة ميدان طبية تابعة للجيش،وبقي يهذي بكلام غير مفهوم لمدة ثلاثة ايام وهو في حالة غيبوبة قبل أن يفارق الحياة.
هذا ما أخبرني به شقيقه بعد أن اتصلت به عبر الماسنجر، مع انني لم اكن اعرفه ولم يسبق لي ان التقيته قبل ان تقودني الصدفة الى صفحته في موقع الفيس بوك. حينها لفت انتباهي ملامح وجهه القريبة الشبه من عماد وهذا ما دفعني الى ان اكتب له حتى اتأكد إذا ماكان يرتبط معه بصلة قربى.
أخبرته بأن عماد كان من أصدقائي المقربين ايام الدراسة الاعدادية، وقدمت له تفاصيل خاصة عن شخصيته ربما لايعرفها الاّ مَن كان قريبا منه، وبينما كنت اكتب له عبر الماسنجر من خلال كيبورد اللابتوب طلبت منه ان يخبرني كل شيء عن عماد منذ ان نال شهادة الدكتوراه في اللغة العربية من كلية الاداب بجامعة الموصل “للاسف يا أخي، اقولها بمرارة، لقد جانبه الحظ الى اقصى الحدود، عندما سُدَّت كل الابواب بوجهه، ولم يتم تعيينه مُعيدا في الجامعة، وهذا ما ترك اثرا قاسيا في نفسه، وبقي عاطلا عن العمل عدة اعوام، أضطر بعدها ان يسافر الى ليبيا في منتصف تسعينات القرن الماضي ليعمل في سلك التدريس رغم انه لم يسبق له ان سافر خارج الموصل طيلة حياته، ولهذا لم يحتمل الغربة ولم يتمكن من العيش هناك، حيث وجد في ليبيا بيئة تتسم بالقسوة، وإذا به يعود عام 1998، اي بعد عام على سفره، ولمّا وجد نفسه مرة اخرى غير قادر على ان يبقى عاطلا عن العمل عاد بعد ثلاثة اشهر الى ليبيا وبقي لمدة عامين، ثم عاد بعدها الى الموصل وهو عازم على البقاء فيها، وشطب نهائيا من راسه فكرة السفر اوالعمل بعيدا عن مدينته، فاستثمر وقته في القراءة والتأليف بعد ان افتتح مكتبا للاستنساخ وبيع الكتب والقرطاسية لعل وعسى فرصة التعيين تأتيه في يوم ما.
اذكر جيدا ان آماله كانت قد انتعشت بعد العام 2003 على اثر ما شهدته جامعة الموصل من تغييرات ادارية كبيرة بعد ان ازيح معظم عمداء كلياتها الذين كانوا يحسبون على حزب البعث وبدلا عنهم جيء باخرين تربطهم صلات مع احزاب العهد الجديد وفي مقدمتهم الحزب الاسلامي الذي هيمَن على معظم الكليات، ورغم ما عرف به اخي عماد من التزام بالدين إلاّ ان ذلك لم يشفع له لدى عمادة جامعة الموصل حتى تفتح امامه باب الامل لينال فرصته في التعيين، حتى أنني سألته أكثر من مرة في ما إذا كان هنالك اسباب معينة تمنع تعيينه، فوجدته هو ايضا يعبِّر عن حيرته الشديدة بجملة سمعتها منه كثيرا “أنا ايضا مثلك ياخالد في حيرة من هذا الموضوع،لم اجد من يقدم لي سببا لهذا الرفض المتكرر!!”. لقد أتعبه كثيرا ذلك الغموض أكثر من مسالة الحصول على وظيفة مُعيد، وقد كشف لي عن محاولات كثيرة حاول فيها معرفة أسباب الرفض مستعينا بزملائه الذين نالوا فرصتهم في التعيين وكانوا على صلة بالحزب الاسلامي، والغريب أن جميعهم فشلوا حسب زعمهم في الوصول الى معرفة الاسباب، وهذا ما زاد من حيرته وحيرتنا معه”.
أخبرتُ شقيقه بأنني كنت قد التقيته اخر مرة في نهاية عام 1998 بعد ان كان قد عاد لتوه من ليبيا، في حينها وجدته ما يزال مشرقا بتلك الابتسامة الطفولية التي عرفناه بها، وتحدث معي بصوته الجهوري، وبلغة عربية فصيحة كان قد عوَّدنا عليها مُذ كان طالبا في الاعدادية، ودائما مايدعم مصداقية حديثه بآية قرآنية او حديث نبوي، او مقطع من قصيدة عمودية لواحد من شعراء العرب القدامى.
كنت انظر بين لحظة واخرى الى صورته اثناء حديثي مع شقيقه عبر الماسنجر، أتأمل ذاك الصدق الذي بقي مشرقا في ابتسامته الطفولية، ولن اشك ابدا في ان اي شخص آخر ما ان ينظر اليه لابد ان يشعر به،وليس فقط اصدقائه وزملائه الذين عرفوه عن قرب وتعاملوا معه.
كان من المنطقي ان اسأل شقيقه عن حالته الزوجية وعدد الاطفال الذين تركهم خلفه، إلاَّ انني استغربت عندما ابلغني بأنه لم يتزوج وكان رافضا لفكرة الزواج.
– لم يتزوج!!
“كان ذلك احد اسباب رفضه مغادرة البيت مفضلا البقاء لوحده،وفشلت كل محاولاتنا في ان يغادر مع بقية افراد العائلة بعد ان اشتدت المعارك وازداد القصف كثافة بكافة انواع القذائف وسقط بسبب ذلك العديد من الاشخاص قتلى وجرحى من بينهم نساء واطفال وشباب وشيوخ،وكثير منهم بقوا تحت انقاض بيوتهم القديمة بعد ان طالها القصف الشديد الذي لم يهدأ ولعدة ايام طيلة ساعات الليل والنهار. كنا ننتظر معجزة تنزل علينا من السماء وتنقذنا من انياب الموت. وما أن وصلت الشرطة الاتحادية حتى نادوا على سكان الحي بمكبرات الصوت طالبين من الجميع ان يغادروا بيوتهم باسرع مايمكن ويتجهوا مشيا على الاقدام الى ناحية حمام العليل التي تبعد مسافة 20 كم جنوب الموصل والتي كانت قد تحررت من سلطة تنظيم داعش . وبقي عماد لوحده في البيت، اذكر جيدا ان اخر جملة قالها لنا قبل ان نودعه “إن للناس امانات في رقبتي كانوا قد اودعوها عندي في البيت وكذلك في محل عملي، وستبقى بذمتي،ولهذا لااستطيع ان اغادر البيت الى ان اعيدها اليهم،وافضل الموت هنا على ان اتركها خلفي”. لك ان تتصوّر يا أخي كيف يمكن ان يعيش انسان بهذه الطهارة النادرة في هذا الزمن،ولهذا كان من السهولة جدا ان يحظى بمحبة عناصر الشرطة الذين تواجدوا في حيِّنا السكني، لذا لم يترك لهم خيار ارغامه على مغادرة البيت، فما كان منهم إلاَّ ان يمنحوه مطلق الحرية بين ان يبقى او يغادر، فقرر البقاء”.
سأكتب لك بعض الذكريات الطريفة التي كان شقيقك عماد محورها. في عام 1977 كنّا في رحلة مدرسية الى مدينة النجف لتقديم عرض مسرحي في مهرجان طلابي وكان معنا طالبات من مدينة كركوك يواصلن دراستهن في الموصل بمعهد اعداد المعلمات ويشاركننا العرض، وصادف ان جاء معنا عماد لكي يلقي خطبة في نهائي مهرجان المسرح المدرسي حيث سبق له ان فاز بالمرتبة الاولى في مهرجان سنوي خاص بالخطابة. لم نهدأ طيلة الطريق من الموصل الى بغداد ومن ثم الى النجف،وانقضى الوقت سريعا ونحن نغني ونمزح ونتبادل النكات بينما عماد اختار ان يجلس هادئا في مقعد بآخر الباص بسبب وجود الطالبات.حينها انتبه عبد الرزاق اليه، فغمز لواحدة من الطالبات كانت تتسم بالجرأة وخفة الدم بأن تتحرك ناحيته وتجلس الى جانبه وتحاول التحرش به. تلقت الاشارة بابتسامة خبيثة، وانسلت من بيننا واتجهت اليه،جلست الى جانبه،فما كان منهُ الاّ ان شعر بالحرج والارتباك فأنسحب قليلا ناحية النافذة وهو يردد بصوت خفيض “استغفر الله استغفرالله” عندها انفرجت اسارير الجميع بموجة عالية من الضحكات،ثم اندفع الكل ناحيته، طلاب وطالبات، وانهالوا عليه بالاحضان والقبلات، ولم تجد نفعا محاولاته وتوسلاته في ان نبتعد عنه.
نظرت الى صورته المنشورة في موقع الفيس بوك وهو يبتسم،وشريط اسود يقطع زاويتها اليسرى، شعرت لحظتها، أن براءتنا قد دُفنت معه تحت التراب.