كلنا يتلمس ظاهرة تسلل التخلف والجهل الى مفاصل المجتمع والدولة، بفعل أسباب عديدة، ليس وقت الحديث عنها هنا الآن، لكن أشدها تخلفا هو ما شاهده الجميع الثلاثاء الماضي، على وسائل التواصل الاجتماعي، حين اجتاحت أروقة “مدينة الطب”، حيث أكبر مستشفيات العاصمة، وأعرق جامعاتها، كومة من الرجال بهيئات مختلفة، وهم يدبكون ويهتفون بحماس شديد، ويرفعون رايات حمراء تشبه رايات الحروب في صدر الإسلام، محوّلين ذلك المكان العام المعني بصحة وتطبيب المواطن، الى ما يشبه مضيفا عشائريا خاصا بهم، أو “تشادر” عزاء لأحد وجهائهم، دون خجل أو وجل من عقوبة المخالفة (رغم كل ما مثله الفعل من دخول غير قانوني اقترب بفعله من حالة الاقتحام)، دون أدنى درجات الاحترام لسياقات المستشفى المتبعة منذ عقود، وبلا رادع او مانع، في تداخل مضر بين قيم الريف والمدينة.
كل تلك الضجة، كانت لمجرد أن مريضا لهم يرقد في المستشفى، فلنتخيل معا حجم الخوف والذعر الذي تملك الأطباء والممرضين وطالبات وطلاب كلية الطب والعاملين فيها لمجرد التفكير بان القضاء والقدر قد يزور المريض الهرم، أثناء فترة دوامهم!!
وأنا أشاهد ما يسمى بـ”العراضة العشائرية” ، وهي تجوب مستشفى مدينة الطب، لا يمكنني وصفهها أو تشبيهها إلا بأنها بصق فوق جبين أنقى وأرقى قيم المدينة وسياقات التحضر!!
أَي إرهاب أكبر من هذا يا أحزاب السلطة المتملقة لمثل تلك الحشود الجاهلة التي قد تمنحكم اصوات ابنائها بسخاء؟! ويا رئيس الوزراء وَيَا قيادة عمليات بغداد، وَيَا وزارات الدفاع والداخلية والأمن الوطني؟ اليس هذا الفعل يرقى الى مستوى خطورة ما عرف بـ”الدكة العشائرية” التي عوملت كإرهاب، ان لم تكن اكثر خطورة؟!
لماذا لم تقم تلك الوزارات واجهزتها المتعددة بواجبها تجاه مجموعة تخرق القانون وقواعد السلوك العامة وسط مرفق حيوي كبير من مرافق الدولة، وتعتقل كل من شارك بهذا الفعل/ التعدي الذي دنس كل القيم السامية، وسحق باقدامه أغصانها الطرية، كي يكون أفرادها عبرة لأمثالهم ورادعا لكل من يفكر بالاقتداء بفعلتهم الشنيعة من جهلة المجتمع، فمن الغريب حقا أن تنظر السلطات الأمنية لتظاهرات مدنية سلمية تحمل مطالب مشروعة يقوم بها أنفار قلائل كمخالفة، ولا تعامل هذا الهجوم السافر بنفس التهمة؟
إن لم تقم تلك السلطات بواجباتها ولَم يحرك مجلس القضاء الاعلى، والمدعي العام ساكنا كعادته، تجاه تلك التصرفات، فعلينا ان نترقب مزيدا من “العراضات” المخزية داخل الدوائر والجامعات وحتى البرلمان ومجلس الوزراء وباقي مظاهر الدولة!!
ولنتخيل معا ان وجيها “متخلفا” تابعا لعشيرةٍ ما، نال شهادة عليا، او حقق نسبة كبيرة من الأصوات تؤهله لأن يصبح نائبا، فهل سيفهم حماقة جلب “العراضة العشائرية”، أو الاستعانة بها داخل أروقة الجامعة أو البرلمان إن لم يوضع حد لتمددها؟