بعيداً عن السياسة وأوجاعها، نظرة سريعة مقارنة الى بغداد المتألقة في ماضيها وحاضرها التعيس، احتلالها ذيل القائمة في دوريات الأفضل والاكثر نمواً ونظافةً في العالم منذ سنوات رافضةً مغادرة موقعها لا ينفي ألقها، خلال زيارتي الأخيرة لمعشوقتي بغداد تولدت لي العديد من الانطباعات التي قد تُعجب بعض القراء وتُنفر الآخرين، لكنها في المحصلة نظرة ممزوجة بين الماضي والحاضر والواقع والخيال.
لم تكن بغداد وحدها مزدهرة في الماضي القريب، فكانت معها مجموعة كبيرة من عواصم ومدن المنطقة تتنافس في معدلات النمو والإزدهار واهمها بيروت ودمشق والقاهرة وتونس الكويت، الثقافة العامة وإزدهار الطبقة الوسطى ادى إلى تألق تلك المدن في ميادين العلم والادب والصحافة والأتكيت وحتى السياسة، لكن مع التوسع الديموغرافي وشيخوخة تلك المدن وغياب الخطط الستراتيجية الكفيلة بدوام الحال، انهارت نهضة تلكَ المدن وبدأتْ تفقد بريقها وأصبح بعضها مُعرض لفقد هويتهُ التراثية والثقافية.
بغداد حالها حال (نوكيا) ازدهرت وانهارت ومازالت تعاني، وهي أحد الأمثلة الحاضرة التي يمكن أن تُدرّس في مجال ديمومة وبقاء المدن مزدهرة ومنع انهيارها ثقافياً وأخلاقياً وأقتصادياً، هذه المدينة العصماء صاحبة الإرث العظيم تقاوم كل محاولات التشويه وطمس الهوية، عندما كانت بغداد في قمة ألقها لم يظن سكانها أو محبيها أن تتحول خلال فترة زمنية محدودة إلى ما هي عليه ألآن، لكنها إنهارت كما يتفق العالم جميعاً على هذه الحقيقة.
خلال زيارتي الأخيرة، حاولت أن أُركز على السلوك العام للمجتمع البغدادي من جهة وعلى الشكل العام للمدينة وما طرأ عليه من تغيرات سلبية أو إيجابية، أكثر ما يقلق في هذه المدينة إنها لم تعد تحمل صبغة بغدادية أصيلة، اي أنها فقدت الكثير من ملامحها وهويتها الثقافية والتراثية، لم يعد هناك مجال (للتبغدد) ولو بحدودهِ الدنيا، أصبح البديل عنه لغة وعادات وسلوك واساليب جديدة لسكان المدينة يحمل في طياتهِ مرجعيات ثقافية جديدة، القبلية والطائفية والحزبية أحد اهم المرجعيات التي اصبح المواطن البغدادي سواء كان اصيلاً أم مهاجراً حديثاً الى هذه المدينة يحاول الإلتصاق بها.
تعمدت أن أكون قريباً بين الناس وأُراقب عن كثب، صعدت الباص (الدبل ديكر) وركبتُ وسائل النقل التقليدية (الكية) التي لم تتغير للأسف منذ أن كانت هذه الوسائط تعتبر من وسائط النقل الحديثة، تجولت في الاسواق وجلست في المقاهي العامة وأهمها طبعاً (الشاهبندر) في المتنبي، حاولت ان أزور بعض المقاهي القديمة العريقة الاخرى لكني للأسف لمْ أُفلحْ كون تلك المقاهي أصبحت مهجورة محشوة بالاثاث القديم وروادها قلائل وجدرانها مطلية بإصفرار واسوداد دخان تنباك ومعسل الأركيلة والسكائر.
حاولت أن اقطع شارع الرشيد سيراً من ساحة الميدان إلى السعدون كما تعودت من ممارسة تلك الهواية في عصر الثمانينيات من القرن الماضي، تذكرت تلك اللحظات الجميلة عندما كنا نقطع الشارع مشياً مستمتعين بما نراه من قديم وجديد في ذلك الوقت، مطاعم الطلبة كالقدس والشمال ومقهى ام كلثوم ورواده من الطلبة والمثقفين ومقهى الزهاوي والبرلمان وحسن عجمي، محلات بيع الملابس الأنيقة ومحلات الحلاقة المشهورة في ذلك الوقت التي كان يتعنى لها كل مهتم بإناقته ومظهرهِ. وصولاً الى السوق العربي وساحة الغريري والاسواق المركزية ومن ثم مقهى البرازيلي.
المشهد مختلف تماماً بين الأمس واليوم، لم تمكني قدماي من السير أبعد من ساحة الغريري، قطعت الطريق بصعوبة بالغة، أسيرعربات الباعة والمتبضعين، وأحاول ان انظر الى الاعلى لكي ارصد ما حلَ في العمارة والبناء التي اصبحت بحالة مزرية عما كانت عليه قبل ثلاثين عاماً، تبرز من بين تلك البنايات كاحدث وافضل، بناية البنك المركزي وبرج مصرف الرافدين اللتان أنشئتا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، العمارات التراثية آيلة للسقوط، لم يُجرؤ أحد على إعادة الروح لها.
لم تمكني قدماي من مواصلة مسير نفس المسافة التي كنت اقوم بها في السابق وعدت أنا وأحد الاصدقاء غير قادرين على إتمام المسير، مستنجدين بأقرب مطعم لتناول وجبة الغذاء وكان مطعم كص (أم كلثوم) الشهير الذي يقع عند بوابة شارع المتنبي.
شَملت زيارتي الى بغداد عبور جسر الشهداء سيراً على الاقدام والتقاط بعض الصور مع دجلة الذي فقدَ الكثير من مياههِ بسبب ازمة المياه مع الجارتين تركيا وإيران وبسبب قلة الامطار ايضاً، كما شَملت زيارتي ايضاً راكباً إحدى (الكيات) من منطقة العلاوي وعبور جسر السنك مستمعاً الى نقاشات ركابها التي إتسمت باليأس والخذلان وعدم الرضا عن كل ما يجري ومشاهداً الطرق والمحلات ومافيها، ويطول الحديث بين ركابها بسبب عدم تمكن (الكية) أن تقطع أي شارع أو جسر بسهولة.
الشوارع مزدحمة وتملؤها سيارات الأجرة الرديئة (سايبا) التي استبدلت (السوبر والكراون) وغيرها من السيارات اليابانية الأصلية التي كانت تزين شوارع بغداد، وسيارات النقل (الكيات) ترفض فراق الشوارع، ولا تقبل باستبدالها بمترو حديث يشق العاصمة من جنوبها الى اقصى شمالها، مخلصاً المدينة وسكانها من رؤية الوجه القبيح الجاثم على صدورهم.
كان تركيزي على سنتر بغداد القديم ولم أتطرق الى مناطق مهمة أخرى كالكرادة والاعظمية والكاظمية والمنصور وغيرها من الأحياء البغدادية، بالتاكيد انها تشترك مع ما ذكر اعلاه بنفس السمات، لكنها قد تختلف من خلال محاولة إضافة بعض اللمسات الخجولة لنزع لباس القبح والفوضى وارتداء بعض ما يمكنها من استعادة عافيتها وحيويتها.
على الرغم من المشاهد البائسة والمخزية التي تشاهدها في بغداد، إلا انها لم تزل تحتفظ بشيء من حلاوة مزاجها وذوق أهلها، لا يملك من عاش وتربى فيها ان يفارقها وينزعها من وجدانه وقلبه، كلهم متفقون إنها الأسوأ وكلهم متفقون ايضاً إنها تمتلك من السحر والجمال الخفي ما يجعلها حاضرة في قلوب اهلها ومحبيها وزوارها.