بين أكذوبة بوابة إسرائيل وأنقاض «صقلغ» المزعومة

الخلط بين حدثين مختلفين

بعد انتهائي من كتابة الجزء الثاني من مقالتي حول بعض مظاهر العدوان الصهيوني على جبهة الآثار والتراث الفلسطيني ونشر هذا الجزء (الأخبار – 16 تشرين الثاني 2024)، وخلال تفحصي لمراجع المقالة، تنبهت إلى وجود خلط محتمل – تأكدت من وجوده لاحقا – بين موضوعين وحدثين مختلفين بينهما أربع سنوات تقريبا، سببه وجود صورة نشرت مع الخبر الخاص باكتشاف ما سماها الإعلام الإسرائيلي “بوابة إسرائيل الأولى” في موقع أثري قرب تل عيراني الواقع على مسافة 43 كم شمالي بئر السبع. وقد تبين لي أن تلك الصورة التي علقتُ عليها في مقالتي الثانية نشرت أيضا مع خبر آخر باللغة الفرنسية يخص اكتشافا مزعوما لمدينة توراتية مفقودة هي صقلغ (Ziklag).

وبالعودة إلى أوليات وتفاصيل الخبر الثاني وجدتُ أن صحيفة هآرتس كانت قد نشرته بتاريخ 09 تموز – يوليو 2019، أي قبل نشر خبر البوابة بأربع سنوات أو أكثر قليلا.

ومن الواضح أن الخبر الثاني، الأقدم، والذي لم أتوقف عنده تحليليا في الجزأين المنشورين، لا يقل تلفيقية واضطراباً عن الآخر؛ فخلاصته الحرفية تقول: “إن فريقاً من علماء الآثار الإسرائيليين والأستراليين أعلنوا أنهم عثروا على أنقاض مدينة صقلغ التوراتية والتي كانت تقع في منطقة النقب في الجنوب بالقرب من بلدة كريات جات مما كان يعرف بمملكة يهوذا. ويرجع تاريخ صقلغ إلى أوائل القرن العاشر قبل الميلاد وهو الوقت المرتبط بالملك داود. وإذا كانوا على صواب فإن ذلك سيعزز النظرية القائلة بأن الملك داود كان أكثر من مجرد زعيم محلي على قمة التلال، ويدعم النظرية القائلة بأنه حكم بالفعل مملكة موحدة في منطقة يهوذا. لكن يبدو أن المملكة لم تكن ذلك الكيان العظيم في العصور القديمة التي يتصورها البعض” وتضيف هآرتس: “وأوضح العلماء أن اسم صقلغ، يبرز في السجل التوراتي على أنه ليس ساميا أو كنعانيا، ولكن يبدو أنه فلسطيني “فلسطي”، وقد أثبتت الدراسات الوراثية الأخيرة التي أجريت على الهياكل العظمية المكتشفة في مقبرة الفلسطينيين في عسقلان، أن الفلسطيين الغامضين نشأوا في أوروبا”. وتختم هآرتس تقريرها الإخباري بالقول “وبحسب الكتاب المقدس العبري، فإن ملك فلسطين حشيش جات (لاحظ الاسم السامي للملك)، سمح لداود بالانتقال إلى صقلغ، عندما فر من يهوذا بسبب عدم رضاه على الملك شاوول، وأصبحت المدينة قاعدة له لبناء قواته”. لنتفحص هذه الكًوْمة من الأخطاء والتلفيقات:

لن نتوقف طويلا عند فرية “هآرتس” المفضوحة حول “المنشأ الأوروبي للفلسطينيين” والتي كررها بمتعة حتى الجاهل في العلوم نتنياهو، وكنا قد فندنا هذه الفرية في حينها (الأخبار عدد 18 تموز 2019) وفندها غيرنا حين نُشرتْ نتائج التحليل الجيني لرفات عسقلان 2019. فالمتفق عليه بإجماع العلماء هو الأصل الكنعاني السامي “الجزيري” للشعب في أرض كنعان قبل وبعد هجرة قبائل الفلسطة “فلشتيم” من جزر شرقي المتوسط وذوبانهم مع الكنعانيين خلال خمسة قرون، وحتى قبل تسجيل أول إشارة إلى أي وجود عبراني أو شبه عبراني في رسائل تل العمارنة في مصر وباللغة الأكدية الرافدانية سنة 1360 ق.م.

بوابة تل عيراني وأنقاض صقلغ

إن الخلط الذي وقع بين الخبرين؛ خبر بوابة تل عيراني وخبر أنقاض صقلغ لا ينفي أو يضعف من حيث الجوهر تفنيدنا لخبر البوابة إذْ تبقى الأسئلة التي أثرناها صحيحة، خصوصا وأن صورة الموقع الجديد للبوابة لا تختلف في تفاصيلها كثيرا عن صورة أنقاض صقلغ رغم أنها أكثر تنظيما ووضوحا ولا لكنها لا تعطي الانطباع بوجود البوابة الحجرية “العظيمة والرائعة” التي تحدث عنها الفريق المُكتشِف.

وحتى ضمن نص خبر هآرتس، يفهم القارئ أن الأمر يتعلق بقرية صغيرة تدعى صقلغ ورد ذكرها في التوراة، وبهذا اعتبرت القريةُ توراتيةً. وهذا صحيح جزئيا وشكليا ولكن لا يترتب عليه أن المدينة توراتية أي يهودية أو عبرانية، بل قد تكون كنعانية أو فلسطية مثلما أن قولنا إن نبوخذ نصر هو “شخصية توراتية” بمعنى أن اسمه ورد ذكره في التوراة، وليس بمعنى أنه يهودي أو عبراني فهو الذي دمر مملكة يهوذا. ولكن نبوخذ نصر ليس توراتياً فقط كسليمان أو داود (والدليل الذي قُدم بخصوص داود أي نقش تل القاضي أكد ورولستون، الخبير الإسرائيلي في النقوش السامية القديمة كونه مزيفا وملفقا) بل ورد ذكره في العديد من السجلات والأثار المادية من نصب وتماثيل في بلاد الرافدين بما يؤكد كونه شخصية تأريخية حقيقية. أما ما ورد في التوراة فقط من أسماء شخصيات ومدن فلا يعني تماما ومئة بالمئة أنه تأريخي وحقيقي على الأرض وفي التأريخ. ونجد تفاصيل دحض الكثير مما ورد في التوراة في كتب خبراء الإناسة والآثار ومنهم مثلا توماس تومسن في كتابة “التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي” وشلومو ساند في كتبه ومنها “اختراع الشعب اليهودي” و”اختراع أرض إسرائيل”، وإسرائيل فنكلستين “التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها”. ولكن الخبر نفسه يؤكد أن قرية أو بلدة صقلغ لم تكن سامية أو كنعانية بل هي فلسطينية والأدق أن نسميها “فلسطية”. وإن حاكمها الملك حشيش جات، سمح لداود بالانتقال إليها كلاجئ. أما في التوراة فنقرأ أن الملك الفلسطي حاشيش أعطى هذه البلدة لداود، وأن العماليق هاجموها وأحرقوها حين كان داود بعيدا عنها، وأن هذا الأخير طاردهم واسترد الغنائم منهم …إلخ” وهذه كلها قصص توراتية لا يوجد ما يؤكد شيئا منها، بل إن صقلغ نفسها بقيت مدينة مجهولة الموقع طوال قرون وقرون. فهل وجد الآثاريون اليوم ما يؤكد أن هذه الأنقاض قرب كريات جات هي لصقلغ؟ هل تم العثور على ما يؤكد علاقتها بشخصية تدعى الملك داود؟

الباحثة الفرنسية فيلنوف تجيب

لنستمع لما تقوله الباحثة الفرنسية إستل فيلنوف، المتخصصة في علم آثار الكتاب المقدس (في حوار معها أجرته صحيفة (Tribune Juive) الناطقة بالفرنسية عدد 11 تموز- يوليو 2019، حول ما تم العثور عليه من أدلة أركيولوجية في صقلغ، حيث قالت إن ما تم العثور عليه لا يتعدى وجود “مواد تعود إلى القرنين 11 و12، والتي تعتبر فلسطينية نموذجية، تحت طبقة من بداية القرن العاشر”. إذن لا شيء يؤكد اسم المدينة “صقلغ” أو علاقتها بداود بل هناك مواد قد تكون بقايا عضوية حللت باستعمال نظائر الكاربون المشع لمعرفة عمرها وبالتالي عمر الموقع لا أكثر ولا أقل وهذا أمر يمكن أن يحدث في أي مكان وزمان دون ان تترتب عليه أيه نتائج واستنتاجات حاسمة.

وتضيف فيلنوف: “إنَّ من الصعب التعليق على بيانات الحفريات الإسرائيلية حتى يتم نشر النتائج. ومن ناحية أخرى، لا يمكننا أن نقول مثل البروفيسور جارفينكل، أحد مديري البعثة الآثارية، أن هذه الاكتشافات تثبت تاريخية الحلقة التوراتية ووجود داود نفسه”. ثم تسأل فيلنوف سؤالا لاذعا: “هل ستثبت كاتدرائية نوتردام في باريس وجود كوازيمودو بطل رواية أحدب نوتردام”؟

وحين تواجَه الباحثة الفرنسية فيلنوف بسؤال مباشر وصريح يقول: “هل تم إجراء هذه الحفريات لغرض أيديولوجي”؟ تحاول أن تتملص من الإجابة بالقول “سأحرص على عدم تجربة أي شيء، ومن المرجح أن يسلط الموقع الضوء على الفترة الانتقالية بين العصر الحديدي الأول (القرنين الثاني عشر والحادي عشر) والحديد الثاني (القرنين العاشر والسادس عشر)”. ثم تطلق حكما شرطياً معلقاً يقول “إذا جلبت هذه الحفريات بيانات جديدة، فهذا أمر جيد جداً”. بمعنى أنها لم تجد ما أعلن عن وجوده الباحث الإسرائيلي جارفينكل من أدلة واستنتاجات شيئا ذا قيمة وبيانات علمية مؤكدة.

إن الباحثة فيلنوف تعي جيدا مسؤولية الباحث الآثاري المنضبط بشروطه العلمية والموضوعية في البحث، ولكنها لا تريد أن يضعها المختلفون معها في خانة “أعداء إسرائيل”. ومع ذلك فهي تحافظ على السوية العلمية وخصوصا عندما سئلت سؤالا مباشرا يقول: “لماذا يريد علم الآثار أن يؤكد ما يقوله الكتاب المقدس”؟ فأجابت: “لأن الكتاب المقدس هو أحد أسس الرواية القومية لإسرائيل الحديثة، والتي يعتبرها البعض امتداداً لإسرائيل التوراتية “الكتابية” التي أسسها داود. بالنسبة لجزء من السكان، هذه القصة لا يمكن المساس بها. لكن علماء الآثار هم هؤلاء المواطنون مثل أي شخص آخر، وحتى لو كانوا علماء ممتازين، فإنهم يجرون أبحاثهم كما هي” أي يجرون أبحاثهم بشروط العلم والأدلة الملموسة.

 ليس ثمة ما يمكن أن يضاف لكل ما قالته هذه الباحثة الفرنسية بلغة هادئة لكشف حقيقة هذا التلفيق والمبالغات التوراصهيونية حول هذا الاكتشاف؛ فكل ما قيل يفي بالغرض، ويضع الأمور في نصابها العلمي بعيدا عن التشويش الأيديولوجي وعما سماه الباحثان بولان وغويازدا “تسيس التراث وعلم الآثار”.

مناقشات آثارية صهيونية داخلية

لقد أثار الخبر، ومن ثم الحوار حوله مع الباحثة الفرنسية الكثير من اللغط والنقاش بين قراء الصحيفة المذكورة. وربما كان من المفيد أن نأخذ فكرة حول هذا النوع من النقاشات في المعسكر الصهيوني أو المنحاز له.  هنا، سنتطرق للنقاشات الحامية على الصفحة التي أجرت الحوار مع الباحثة الفرنسية فيلنوف بين قرائها:

تطلق سيدة تدعى باتريشيا كامباي المناقشة من خلال سؤال مذعور توجهه إلى القراء ومحرري الصحيفة يقول: “أ مدينة فلسطينية في وسط إسرائيل؟! أنا في حيرة. أليس الفلسطينيون غرباء جاءوا عن طريق البحر؟ ألم يستوطنوا على شريط من الأرض على حافة البحر الأبيض المتوسط، يسمى اليوم قطاع غزة” وتختم كلامها بسؤال يقول: “ألم تؤدي كلمة فلسطيني إلى ظهور كلمة فلسطين التي أطلقها الرومان على هذه البلاد؟ هذه الشبكة من الأسئلة تحتوي على أجزاء من الحقيقة مزجت بسوء الفهم والأكاذيب التلفيقات التي نسجتها القراءات التوراتية الآثارية غير العلمية في الوقت عينه وأدت إلى عملية غسيل أدمغة شاملة للجمهور. فإذا كان المقصود بالفلسطينيين في الخبر هم “الفلسطة” فما الذي جاء بهؤلاء إلى وسط إسرائيل شمال أورشليم القدس وهم الذين استقروا في الجنوب؟

ففي حين يصر التوراتيون الصهانية على وجود إمبراطورية يهودية في زمن داود وسليمان يؤكد العلماء – الباحث الدنماركي نيلز لمكة على سبيل المثال – إنَّ ما سُميَّ إمبراطورية داود وسليمان كانت دويلة صغيرة اتسعت قليلا ولم تستمر أكثر من أربعين عاما، ثم عادت مملكتا إسرائيل ويهوذا إلى مساحتهما الطبيعية والتي تقارب مساحة جزيرة (غوتلاند) السويدية الصغيرة أي ثلاثة آلاف كم² تقريبا، من مجموع مساحة فلسطين البالغة 27 ألف كم²!

وهنا يحاول كاتب آخر هو اندريه مالمو توضيح الموضوع فيزيد الطين بلَّة حين يقول محاولاً الإجابة على سؤال كامباي: “لا، كان الفلسطينيون في جميع أنحاء المنطقة. أنت على حق بشأن اسم فلسطين الذي فرضه الرومان على سكان يهودا والسامرة والجليل لجعل الدول اليهودية تختفي”. وهذا غير صحيح فالفلسطينيون بالمعنى القديم لكلمة “الفلسطة” – كما قلنا – لم يكونوا موجودين في جميع أنحاء المنطقة بل في خمس مدن هي غزة، عسقلان، أسدود، جت، وعقرون، في الساحل الجنوبي الفلسطيني ما بين يافا ووادي العريش. أما الموجودون في كل أرجاء المنطقة فهم الكنعانيون سكان البلاد الأصليون قبل أن يتغير اسم البلاد من أرض كنعان إلى فلسطين بالتدريج بدءا من العصر الإغريقي فالروماني. والخطأ الذي تقع فيه باتريشيا كامباي وغيرها هو إنها تخلط بين الفلسطة القدماء وهم مجموعة من المهاجرين البحريين وبين الكنعانيين أو سكان بلاد كنعان الأصليين والذين صار اسمهم “فلسطينيين” في عهود لاحقة. ولا تريد أن تصدق أن هناك فلسطينيين في قلب ما يسمونه أرض إسرائيل التوراتية الوهمية.

ورغم أن بعض المشاركين في النقاش يقرون بأن “مدينة (صقلغ) هي في الأصل مدينة كنعانية وليست مدينة فلسطينية”، ولكنهم يعودون ويكررون ما غرسته التوراة في أذهانهم فيقولون “ولكنها في الواقع مدينة إسرائيلية، لأنها كانت تابعة لملكية يهودية” وأحدهم ذكر القراء بأن كلمة كنعانيين تأتي معنى تحقيري “توراتيا طبعا” لأنهم السكان الأصليون!

والحقيقة فإن بعض التوراتيين الصهاينة صريحون جدا في ما يتعلق بالتوحيد والمماهاة بين اعتقاداتهم الدينية وثقافتهم الآثارية، فهم يعتبرون الرواية التوراتية الدينية حقيقة مطلقة وغير قابلة للمناقشة كما قال المتدخل صامويلي في رده على كومباي حين ذكَّرها: بالنسبة لليهود المؤمنين، فإن الكتاب المقدس العبري المعروف باسم “العهد القديم” هو وثيقة ذات طبيعة إلهية، وحقيقة لا جدال فيها، ومناقشتها محظورة، وقد أُعطيَ جوهرها لموسى على جبل سيناء؛ منذ حوالي 33 قرنا”، معنى ذلك أن الخطاب الاستبدادي الأيديولوجي القمعي والمعادي للعلوم الحديثة ليس حكرا على قومية أو دين معين فرجال الكهنوت وعبيد النصوص من طينة واحدة وهم موجودون في كل زمان ومكان.

إن هذه الآراء المتطرفة التي تصدر عن جمهور صهيوني توراتي واسع تعرض لعملية غسيل أدمغة مديدة هي التي تمنح الخطاب الصهيوني التوراتي صفته النهائية كخطاب تلفيقي خرافي لا يصمد أبدا أمام الأدلة الملموسة التي تقدمها يقدمها علم الآثار أحيانا أو يسجل انعدام وجود ما يؤكد الرواية التوراتية أحياناً أخرى. ولكن الحقيقة هي اللغة التي تبقى ولا تزول ويحاول مقاربتها علماء التأريخ والآثار والإناسة وبعض من الإسرائيليين المهنيين الذين يحترمون أنفسهم وصفتهم.

*كاتب عراقي 

أقرأ أيضا