قدمت حكومة السيد محمد شياع السوداني قبل أيّام، مشروع الموازنة العامة للعراق لسنة 2023 الى البرلمان، لفترة ثلاث سنوات (2023- 2025)، وهي، بحسب العرف المالي والاقتصادي، تعتبر حالة غير مجربة سابقا، لان احدى القواعد الاساسية لإعداد الموازنة العامة للدولة هي قاعدة (سنوية الموازنة) الى جانب اهم القواعد الأخرى المتمثلة، اختصاراً بالقواعد التالية:
1- يجب أن تشمل الموازنة العامة جميع الإيرادات والنفقات العامة للدولة، وذلك خلال السنة المالية المعنية.
2- قاعدة توازن الموازنة وهي مكملة للقاعدة السابقة، ويتجسد هذا التوازن بوجوب تساوي اجمالي قيمة الإيرادات العامة المقدرة مع اجمالي قيمة النفقات العامة المقدرة، ومن خلال تحديد مبالغ (العجز والفائض) الماليين المقدرين للسنة المالية المعنية.
3- قاعدة شمولية الموازنة العامة وهي مكملة للقاعدتين الاولى والثانية، وتفترض هذه القاعدة ان تشمل الموازنة العامة للدولة جميع الإيرادات العامة والنفقات العامة المقدرة، بحيث لا يقع اي جزء منهما خارج إطار الموازنة العامة للسنة المالية المعنية.
4- قاعدة عمومية الموازنة العامة وتسمى ايضاً بقاعدة (عدم تخصيص) وتفترض هذه القاعدة عدم تخصيص ايرادات وحدة اقتصادية حكومية معينة لتغطية نفقات هذه الوحدة.
إن قاعدة (التقدير) للإيرادات العامة للدولة في السنة القادمة او لثلاث سنوات قادمة،هي أساس المشكلة او المعضلة في الموازنة العامة 2023 في العراق للسنوات الثلاث القادمة، حيث ان الإيرادات العامة في العراق تعتمد بنسبة اكثر من (90٪) على الواردات المتاتية من تصدير النفط الخام.
إضافةً الى تعارضها مع القواعد السابقة، ان الموازنة العامة الحالية تتعارض مع اهم قاعدة من قواعد إعداد الموارنة وهي:
5- قاعدة سنوية الموازنة العامة، وبموجبها يتم اعدادها وتنفيذها لفترة سنة مالية تقويمية، وضعت هذه القاعدة لاجل تحقيق مايلي:
أ- لاجل ضمان ثبات تقديرات حجم النفقات العامة خلال السنة الواحدة، تلك النفقات التي من الصعب ان تبقى ثابتةً في السنة او السنوات القادمة وهي في حالة تغيير مستمر ارتفاعاً وانخفاضاً.
ب- وكذلك صعوبة ضمان ثبات تقديرات حجم الإيرادات العامة للدولة في السنة أو السنوات القادمة وخاصةً بالبسة لحجم وقيمة صادرات الدولة وكذلك الضرائب وغيرها، ولاسيما في حالة مثل العراق الذي له اقتصاد ريعي تتاثر قيمة إيراداته العامة بتقلبات في إسعار النفط الخام عالمياً.
ج- كما ان هذه القاعدة تضمن بصورة أفضل استمرارية اجراءات الرقابة السياسية البرلمانية لبرامج عمل الحكومة المنتخبة برلمانياً ومحاسبتها.
د- انها تضمن وتسهل اجراءات إعداد كشف (الحسابات الختامية السنوية) في نهاية كل سنة مالية تقويمية وهذا الكشف يكون بمثابة وسيلة رقابية لتقويم الاداء الحكومي الفعلي في السنة المنتهية ولمعرفة كيفية الثصرف الحكومي الفعلي بالإيرادات والنفقات العامة من جهة، ومدى إنجاز الحكومة لبرامجها وفي تحقيق أهدافها المرسومة مسبقاً من جهة اخرى.
على اي حال يتم إعداد وتنفيذ الموارنة العامة بموجب القواعد انفة الذكر وحسب أهميتها بالنسبة لكل دولة وفقاً لظروفها الموضوعية ومرحلتها التاريخية وحسب إطارها التشريعي.
حيث أن النظرية التقليدية (الكلاسيكية) في الاقتصاد في القرن التاسع عشر أخضعت الموازنة العامة لتلك القواعد بهدف وضع اجراءات السلطة التنفيذية(الحكومةً القائمة) تحت مساءلة ورقابة السلطة التشريعية (البرلمان القائم).
ان قواعد الموازنة الكلاسيكية تعتبر قواعد نظرية الى حد ما حسب منظري علم الاقتصاد والمالية العامة، ومنهم من صنفها من حيث الاهمية الى قواعد أساسية واخرى قواعد ثانوية، كما وتختلف أهميتها في التطبيق حسب الزمان والمكان وكذلك حسب (الإطار التشريعي) المتبع لكل دولة.
كما أشير اعلاه، ان هذه القواعد مرتبطة بالمفهوم الكلاسيكي للمالية في القرن التاسع عشر، لكن مع تطور مفهوم المالية العامة والظروف الاقتصادية للدول تطورت معها القواعد المذكورة واصبح لها العديد من الاستثناءات ولا سيما من حيث الأساليب المستخدمة في إعداد الموازنة العامة ومنها:
1- أسلوب إعداد موازنة البنود التي تتلائم اكثر مع قاعدة سنوية الموازنة.
2-أسلوب إعداد موازنة البرامج الاستثمارية التي تتلائم بصورة اقل مع قاعدة السنوية بسبب وجود برامج حكومية تستغرق اكثر من سنة لاجل تحقيق أهدافها، وهذه النقطة هي أساس الجدل الحالي بخصوص المآخذ الذي يؤخذ على إعداد موازنة العراق لسنة 2023 لمدة ثلاث سنوات قادمة.
3- كما ان النظرية الكلاسيكية كانت ترتكز على المشاكل المالية فقط بمعزل عن العوامل الاقتصادية والمجتمعية المتحكمة بالحياة الاقتصادية، بينما النظرية الحديثة للموازنة لا تتركز على المالية العامة بصورتها المنعزلة بل تأخذ بنظر الاعتبار العوامل والمشاكل الاقتصادية المتعلقة بها.
خلاصة القول:
أولاً- قد يواجه مشروع الموازنة العامة 2023 المقدمة للبرلمان من قبل الحكومة مناقشات حادة داخل البرلمان مما قد توءدي الى تاخير امر تصديقها ليتحول مشروع الموازنة الى قانون الموازنة لفترة اطول من السنة المالية وبالتالي احتمالية حدوث التاخير في تنفيد الحكومة الخالية لبرامجها المتفق عليها من قبل معظم الفعاليات السياسية الرئيسية، علاوةً الى احتمالية اعادة هذه الموازنة الى الحكومة لاجل اجراء تعديلات معينة في التخصيصات المقدرة من قبل الحكومة لقطاعات اقتصادية وبطلب من البرلمان وذلك بسبب المبررات التالية:
1- تعارض موازنة 2023 مع القواعد اعلاه ولا سيما مع قاعدة سنوية الموازنة والتي تتولد عنها ما يلي:
ا- صعوبة اجراء الرقابة البرلمانية لموازنة يتم اعدادها وتنفيذها لفترة أكثر من سنة مالية واحدة مما توءدي الى فقدان البرلمان لمعظم دوره كسلطة رقابية وتشريعية طيلة الفترة.
ب- صعوبة تقدير حجم كل من الإيرادات والنفقات العامة للحكومة لأكثر من سنة، بسبب التغيرات التي سوف تحصل في المستوى العام للأسعار وأسعار الصادرات والاستيرادات، سعر صرف الدولار، وحجم الضرايب والديون الى اخره.
ج- صعوبة إعداد (الحسابات الختامية السنوية) التي تخص الخلاصة السنوية لاوجه التنفيذ الفعلي لبنود الموازنة العامة السنوية وتحديد (العجز او الفائض) المتحقق فعلاً في الموازنة العامة وتحديد الرصيد المدور خلال السنة المالية، إضافةً الى الديون المقبوضة والمسذذة وفوائدها.
د- صعوبة وعدم واقعية مساًلة (تخصيص) المبالغ التي ستنفق على القطاعات الاقتصادية في الدولة في حالة تجاوز الموازنة للسنة المالية وصعوبة تقدير الآثار الاقتصادية المتولدة عن العوامل المستجدة التي توءثر على الحياة الاقتصادية في حالة تجاوز السنة المالية..
2- لكن، كما هو ملاحظ، ان العراق يمر بحالة استثنائية منذ عام 2003م، ولم تكن لديه الموازنة العامة لعدد من السنوات، بل ولم يتم إعداد الحسابات الختامية السنوية لعدد من هذه الموازنات العامة، وهناك تقصير وتلكأ مستمر في تنفيذ المشاريع والبرامج الاستثمارية المقترحة في تلك الموازنات،الحكومية، ناهيك عن حصول انقطاع وعدم التواصل في تنفيذ برامج عمل للحكومات المتعاقبة وتباين في سنوات ممارسة عملها، مما جعلتها متلكئة في تنفيذ برامجها على طول الفترة السابقة.
ثانياً-استناداً الى ما يرد ادناه، بما ان:
1- حكومة السيد محمد شياع السوداني قد جاءت في ظروف في بالغ الحساسية واستثنائية التي يعيشها العراق.
2-كما وجاءت هذه الحكومة بموافقة جميع الأطراف العراقية الفاعلة في الساحة العراقية، بما فيها البرلمان، كتلة الإطار التنسيقي الشيعي، تحالف ادارة الدولة المشكلة للحكومة والمكونة من المكونات الرئيسية للشعب العراقي (شيعية،سنية،كوردية)،و غيرهم، كما وهناك اتفاق عام غلى برنامج عمل هذه الحكومة من قبل تلك الأطراف.
3- ولحد كتابة هذا المقال. لا يوجد اي اعتراض فعلي غلى برنامج عمل حكومة السوداني الحالية سواء من قبل التيار الصدري المنسحب من البرلمان، ولا من فبل الأطراف التي تدعي بانها معارضة سواءً داخل البرلمان او خارجه.
4- واهم من هذا وذاك، لم نجد اي اعتراض علني على البرنامج الحكومي الذي عرضه السيد رئيس المجلس الوزراء على الجهات الفاعلة منذ البدء بممارسة سلطته التنفيذية، تلك الجهات المتمثلة بالبرلمان وتحالف ادارة الدولة مجتمعةً التي تشكل أعضائها مجلس الوزراء الحالي، ناهيك عن الموافقة الضمنية لمسؤولي الإطار التنسيقي الشيعي وتحالف السيادة السني وغالبية الاحزاب الكوردية والتيار الصدري ولحد الان.
ثالثاً- وبناءً على ما ورد اعلاه، وبسبب الحالة الاستثنائية التي يعيشها العراق في كل النواحي السياسية والاقتصادية والاًمنية والقانونية، لندع مشروع الموازنة العامة الاستثنائية 2023 لثلاث سنوات قادمة ان تمر كحالة استثنائية من الحالات الاستثنائية التي تمر بالعراق منذ عام 2003 ولحد آلان وبعد ان تناقش فقراتها وتصادق عليها داخل البرلمان وان يراقب تنفيذ فقراتها فيمابعد من قبل اللجان البرلمانية المختصة خلال تلك السنوات الثلاث.
ختاماً.. وبسبب اصرار الحكومة الحالية غلى ان تكون الموازنة العامة 2023 لمدة ثلاث سنوات قادمة لاجل تنفيذ وإنجاح برنامجها الحكومي وبسبب التأخير الحالي في مناقشة وتصديق مشروع الموازنة كي يصبح (قانوناً) والوقت يقترب تدريجيا من منتصف السنة إضافةً الى الحاجة الملحة للشعب العراقي الى هذه الموازنة.
وبما ان (الموازنة العامة للدولة) ما هي إلا (الوجه المالي) للخطة الاقتصادية في الدولة، لذا من الأفضل ولاجل حل المأزق الحالي، ان يتم تغيير عنوان (مشروع الموازنة العامة 2023) الى (مشروع الخطة الاقتصادية الثلاثية 2023- 2025)، وبعد تصديقه من قبل البرلمان ان يتحول عنوان المشروع المقدم الى (قانون الخطة الاقتصادية الثلاثية 2023-2025)، بدلاً من (قانون الموازنة العامة 2023)، وبهذا يمكن حل المأزق المشار اليه اعلاه، ولتكن تجربة الموازنة العامة لثلاث سنوات قادمة بمثابة تجربة عراقية استثنائية الى جانب الاستثنائيات العراقية المعروفة ولاسيما هناك قاعدة اخرى من قواعد الموازنة الآنفة الذكر، وهي القاعدة (رقم 6) المعروفة بقاعدة (مرونة الموازنة) التي تجيز للمسؤول عن تنفيذ بنود الموازنة اجراء التغيير بما ورد في بنودها بشرط ان لا يتجاوز الحد الأعلى المسموح به من النفقات، عسى ان تتعض منها دروس النجاح والفشل مستقبلاً، فهل يا ترى بإستطاعة حكومة السيد السوداني، او ان يسمح لها، ان تكمل مسيرتها لغاية نهاية عام 2025 لتنفيذ الموازنة العامة ثلاثية السنوات. فلسوف نرى..؟.
aras_hussajn@yahoo.com