كانت لقاءاتي الاولى بالأمريكان مربكة وغريبة في السنين الاولى لتواجدي في الولايات المتحدة، كانوا يطرحون اسئلة تلمح لعنصرية أحياناً، مثلاً كيف جئتكم؟ هل وضعكم قانوني ام غير قانوني؟ او هل ستعودون يوما ما الى بلدكم؟ وهل تدفعون الضرائب؟ وأحياناً يطرحون اسئلة سياسية مثل: ايهما افضل العراق الان ام وقت صدام؟ او هل انت سنية ام شيعية؟ أو ما الذي يجري في بلدك؟ نوعية اللقاء بالأقارب الذين نشأوا في امريكا كان عجيباً، فمنهم من رأيت وجهي وذكريات بغداد الجميلة في مرآة قلوبهم، ومنهم من صار يُعاملنا باستعلاء واستغباء واضح، لكني فسحت له المجال بابتسامة فقط، ولم احاول إثبات ما لست بحاجة الى إثباته، فهناك من هو بحاجة لأن يقضي وقتاً، وتجربة ليست متوفرة دائماً ليجني ثمرة الثقة بالنفس فيتعامل بحرية وبمحبة مع الناس.
اللقاءات الأكثر غرابة كانت مع من خدم في العراق، كانت مع احدهم وقد أصيب بحالات نفسية واكتئاب فوجد فيّ شخصاً يفهمه. وآخر قد اتجه للدين ويدعوني الى كنيسته التي هي الأصح والأفضل. وآخر فخورٌ بأنه حررني و حرر النساء في بلادي. اخرون اراهم بملابس عسكرية يأخذون اطفالهم من والى المدرسة التي يتعلم فيها أطفالي.. هكذا مع تعمق الجروح يتلاشى العدو، تبقى وحدك بلا ند تلومه وتلقي غضبك عليه. رجل مسن لطيف التقيته في احد المتاجر طلب مني مساعدته لجلب منتوج من اعلى الرف، إذ كان هو مقعداً، شكرني وسألني من أين انا… قال بأننا ابناء عّم، و اننا احفاد ابراهيم، فهو يهودي من ايرلندا وأنا مسلمة من العراق حسب انطباعه الذي لم أغيره له، وأنه يرى من الخطأ تأسيس دولة وفق الانتماء الديني، ملمحاً لمشاكل فلسطين واسرائيل. قال بانه فقد ساقه في حرب فيتنام وان ابنه الان في العراق رغم تحذيره له بأن لا يذهب. أراني في محفظته صورة لحفيديه التوأم اللذين ولدا قبل أربعة أشهر، وسوف يراهما أبوهما لأول مرة في عطلة عيد الميلاد القادم. هكذا ينعطف الحوار نحو السياسة والحالات الانسانية ما ان تتعرف لشخص أول مرة وتجلب كلمة العراق كلاماً كثيراً.. ثم ينتهي الحوار بالتأسف لما يحدث بسبب الحرب. وانا ادركت بعد وقت طويل بأنه من المسموح قانونياً واجتماعياً ان أعيش في مجتمع متعدد الثقافات ومتقاطع الاتجاهات دون ان يفكر احد بقتلي بمجرد اختلافي معه او عنه. ثم اتساءل عن من وأين هو عدوي إذاً؟ من تسبب بابتعادي عن بلدي واهلي وأصدقائي مع ذاكرة دموية؟ ابحث فلا أَجِد، تبخر عدوي كغيمة سوداء وعاد الى المحيط وانساب مصيري ايضاً كقطعة من دجلة الى المحيط الهادئ.. لكن، أيها الجندي لا أريدك ان تكون إنساناً مثلي، أريدك وحشاً لأكرهك حذارٍ ان تجرؤ على اخباري بقصتك العادية لا تحكِ لي عن أمك أو صديقتك او ابنائك، وعن أسبابك للذهاب الى هناك.
احك لي عن كرهك لي وسخطك عن كل الذين صوبت لهم رشاشتك وجعلت اجسادهم تهفو على الارض. قل لي بأننا أعداء لأكرهك قل لي عن سوء الشر الذي صنعته هناك عندما كنت تضن بأن الله قد حجب عينيه بدخان حربك مقنعاً إياه بأنها بخور صلاتك. احكِ لي عن نشوة احتلال وطن أناس لا تعرفهم أخبرني عن إصابتك ودفن أطرافك في ارض المعركة، هذا الذي تفتقده في جسدك يذكرك دائماً بأننا لن نكون أصدقاء، قل لي كم ان القتل أسهل من الندم وكم كان أسهل لك لو لم نعش حياة آدمية، فلا تشعر بالذنب بتدمير أرضي، قل لي كم تمنيت لو انك لم تعرف بوجودي، لا تحكِ لي قصصك العادية، احكِ لي عن بشاعة الحرب وعن فوزك ونصرك وتكريمك كبطل، وشعورك المناقض لما يقولون عنك انا عدوتك هناك عليّ ان افتخر بك اليوم لأني مواطنة مواطنة من تاريخ بلد مُحتل بلد تحول الى نسر في قلبي وحلّق عالياً.