تتقاطع غالبية الناس في فهمهم وآرائهم عن التأريخ، فمنهم من يراه كذبة يدونها أصحاب النفوذ والقوة ليخلدوا أنفسهم وبالوقت ذاته يحجّمون من خصومهم وأعدائهم، وأيضاً في حالات نادرة يهولون من حجمهم ليس حباً بهم أو اعترافاً بمناقبهم، بل ليثبتوا لعامة الناس فقط أن خصمهم لم يكن سهلاً وأنهم مع ذلك سحقوه لأنهم الأقوى والعكس قد لا يكون صحيحاً.
لا يخفى عدم وجود إيمان مطلق في أي شيء إذ أن من بديهيات الغباء تصديق الأشياء بلا دليل، وأني أشبه فكرة قراءة التاريخ بـ”حكم الراية” في مباريات كرة القدم حيث يمثل اللاعبون بأجمعهم التاريخ، و”حكم الراية” هو القارئ فإذا كان الحكم متقدماً أو متأخراً عن اللاعبين ببعض الخطوات فانه سيكون هنالك خلل في زاوية الرؤية للحكم، مما يؤثر في حكمه على الموقف، أما إذا كان الحكم معهم على خطٍ مستقيم فسوف تكون زاوية الرؤية لديه مثالية، كذلك الحال لفكرة قراءة التاريخ إذ عليك الهرولة بين السطور (ولأكثر من مصدر) حتى تجد الزاوية المثالية للرؤية (الحقيقة) حينها أنت كحكم راية، ترفع رايتك للخطأ وتبقيها للأسفل في الصواب.
إن معظم الناس يرى أن لا فائدة من موضوع التاريخ بشكل عام، والأهم هو الحاضر وأنا أقف بالضد من هذه الفكرة، لأن الماضي هو من صنع الحاضر الذي نعيشه الآن، والدليل على ذلك أن الكثير من دول العالم تدَرس تاريخها بكل تفاصيله وتتعامل معه على أنه تجارب سواء كانت ناجحة أم فاشلة يجب الاستفادة منها لكسب الخبرة للتعامل مع المشاكل المشابهة التي قد تحدث مستقبلاً، بل وحتى علماء النفس يَدرسون التاريخ لأنه بطريقة أو بأخرى ساهمت بتكوين شخصية الانسان الحالية بالطريقة التي هي عليها الأن ،بغض النظر عن بقية العلوم المرتبطة بالتاريخ الذي يصفه بول فاليري أنه أخطر ما أنتجته كيمياء الفكر.
إن التاريخ في تصوري ليس معياراً لمعرفة من هو الأقوى وإنما هو معيار لمعرفة من هو الأدهى، وقد تطور مع تطور التكنولوجيا إذ أصبح الاعتماد على الأدلة الفيديوهية المصورة أكثر من الورقية المكتوبة خلال السنوات الأخيرة، لكونها أقل عرضة للتحريف والتشويه مقارنة بالدليل الورقي الذي يعول كثير على أمانة الناقل للحدث، فلا تتعبوا أنفسكم بكتابة التاريخ، لأن الجيل القادم سيراه مصوراً فهو باختصار تاريخ بلا تأريخ.