صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

تجربتي مع الشيوعية

قد يتصور البعض من عنوان المقال بأنني كنت أحد قياديي الحزب الشيوعي العراقي وأحد الذين عاصروا فهد وسلام عادل وأبو العيس وغيرهم من قادة هذا الحزب التاريخي أو ممن ساهم في تظاهرات جسر الشهداء عام 1948 وحادثة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وغيرها من الأحداث أو أنني أحد أولئك الذين شملتهم فتوى المرجعية (الشيوعية كفر وإلحاد) التي مهدت لإصدار البيان رقم 13 السيئ الصيت في شباط عام 1963 وباركت للبعثيين قتل الشيوعيين في الشوارع وأباحت لهم التنكيل بهم وسوقهم إلى الموت في قطاره الشهير (حادثة قطار الموت) وحشرهم في سجون نقرة السلمان والحلة وغيرها من السجون الرهيبة ومنحهم الفرصة للتلذذ بتعذيب كل شيوعي وكل من يتهم بالشيوعية وتقطيع أجسادهم بالمناشير أو أنني ممن قضوا دهرا من الزمن في سجون وأقبية الأنظمة المتعاقبة وممن كان ضمن من اصطادتهم خدعة عام 1974 في ما يسمى بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية ,المصيدة التي ساقت الشيوعيين للمشانق عام 1979؟

 أبدا فأنا لم أكن يوما لا مع هؤلاء ولا مع غيرهم لأنني لم أكن مخلوقا أصلا في زمنهم ولم أعاصر تلك الحوادث التاريخية ولم يكن عمري سوى سنوات عديدة حين بدأت الهجمة الوحشية على الشيوعيين عام 1979 لذلك لم يسنح لي الوقت ولا الفرصة لأكون شيوعيا ولم أكن بعثيا أو دعويا إسلامويا ولم تتوفر لي القناعة بعد العام 2003 لأنتمي لهذا الحزب أو لغيره ولو لساعة واحدة من حياتي.

النشأة في بيت شيوعي

لقد نشأتُ في أسرة كان ربها في فترة من فترات حياته شيوعيا يساريا وهو والدي الذي كان رجلا متعلما ومثقفا واعيا وأديبا متميزا وأستاذا محترفا للغة العربية وتربويا يشار له بالبنان وإداريا ناجحا و محاميا شهيرا ومربيا ذو مبادئ وقيم مطبقة على أرض الواقع وليست لعقا على اللسان زرعها فينا لنحصد ثمارها اليوم لننقلها إلى أبنائنا تحت شعار (زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون) وفوق هذا وذاك كان رجلا عصاميا ونزيها بامتياز يشهد له بذلك القاصي والداني لم يساوم ولم يتنازل رغم كل المغريات, فتحت عيني في هذه الدنيا على مكتبة والدي التي تضم آلاف الكتب وبمختلف العناوين ولم تكن تلك العناوين مقتصرة على فكر سياسي معين أو تدعو لأجندات أحزاب محددة إنما كانت كتبا تحمل عناوين علمية وأدبية وثقافية ودينية وتاريخية وطبية وهندسية وسياسية إضافة لأعداد لا حصر لها من المجلات المتميزة كالمختار (ريدر دايجست) والمعرفة والهلال وروز اليوسف والأقلام والثقافة والعربي وغيرها من العناوين الشهيرة في حينها فنشأت في بيئة ثقافية علمية أدبية وموسوعية بامتياز انعكست على مستقبلي في تذوق الأدب والكتابة والفنون واستطعت من خلالها بناء لغة سليمة وامتلاك قدرة ثقافية ومعرفية وأدبية لا بأس بها.

الشيوعية كفر وإلحاد

لم يكن ذلك الأب ملحدا أو متقاطعا مع الدين ولم أره يوما أو أسمعه يتحدث عن الدين بسوء وكان قارئا نهما لكل نتاجات الآخرين الفكرية بغض النظر عن الخلفية والمعتقد والتفكير بما فيها الدينية وقد ختم القرآن الكريم عدة مرات, ليس من باب القراءة الواجبة إنما من باب التمعن في التفاسير المختلفة للآيات القرآنية التي اختلف فيها كبار المفسرين فكان يرى من منظوره أن الدين الذي نحن عليه اليوم إنما دين مسيس مبني على تفضيل المصلحة والمنفعة الشخصية على حساب المصلحة العامة, دين يتلاعب به أصحاب الفتاوى بما يتناسب ورغبة الحكام وبما يحقق مصالحهم وغاياتهم ويشرعن حكمهم بأي وسيلة وهذا الرأي لم يكن لصيقا بالفترة التي عاشها إنما مبنيا على حقائق ووقائع تاريخية مضى عليها قرون.

رد الجميل

لقد كانت علاقة ذلك الاب الشيوعي بالمتدينين علاقة مبنية على احترام أفكارهم وأرائهم ومعتقداتهم الفكرية التي امنوا بها وكان اول الواقفين الى جانبهم في محنتهم التي قاسوها عام 1979 وأتحدى من يجد لي أحدا مثله وقف وقفة مشرفة مع الدعويين والاسلامويين وهو داخل العراق متحديا أجهزة النظام القمعية, فساندهم إبان الهجمة التي لحقت بهم بدايات عام 1980 بما فيها (التسفير القسري) وحتى سقوط بغداد عام 2003 ووقف الى جانب عوائلهم وحافظ على أموالهم التي صادرها النظام السابق وأعاد لتلك العوائل المضطهدة الكثير من حقوقهم وساهم في تشريع قوانين تضمن حقوق عوائل المعدومين منهم (قانون عدم شمول دار سكن عائلة المعدوم التي تسكنها بالمصادرة) وأوى العديد منهم في دارنا أيام الحرب وفي إنتفاضة أدار عام 1991 في الوقت الذي تبرأ منهم أقاربهم حتى الظهر السابع خوفا من بطش النظام, وكان رد الجميل بعد 2003 بأن حاربوه وعائلته حربا ضروسا فاقت حرب البعثيين له في مناسبات عدة بعد ترشيحه للعديد من المناصب التي يستحقها بجدارة وبنفس التهمة المعهودة (إنه شيوعي سابق) ؟!!!! .

اعتزال السياسة

لقد اقتنع ذلك الأب الشيوعي بترك السياسة بعد تجربته المريرة مع البعثيين وما تعرض له من تعذيب واضطهاد جسدي ونفسي لازمه طيلة حياته لا سيما حقبة ما بعد الثامن من شباط ومرارة تجربة تشكيل الجبهة عام 1974 والتي اعتبرها مصيدة للشيوعيين وأختلف مع قادة الحزب وعارض الانضمام لها لأنه كان يعلم جيدا بأن البعثيين لا أمان لهم بعد الذي جرى في شباط عام 1963 فترك الحزب عام 1975 إلى غير رجعة ثم ما لبث أن أيقن بعد الأحداث المتتابعة في العالم وخصوصا في المعسكر الاشتراكي بأن سياسة الحزب الواحد والقائد الأوحد التي شملت كل الدول المنضوية تحت لواء الاتحاد السوفيتي السابق ما هي إلا أنظمة حكم فاشلة وفاسدة تجمع الانتهازيين والمتملقين واللاهثين وراء المناصب على حساب القيم والمبادئ وعلى حساب مصالح الشعوب وحرياتها ورفاهيتها لتنعم الطبقة السياسية الحاكمة وذيولها بخيرات البلدان تاركة شعوبها ترزح تحت خط الفقر مخدرة إياها بالشعارات الطنانة الرنانة, فترك العمل الحزبي واختار الاستقلالية من كل الأحزاب واعتزل السياسة وغير بوصلته نحو تحقيق المبادئ والقيم التي امن بها على ارض الواقع فرفع شعار ( إن كنت صاحب مبادئ فاجعل مبادئك موضع التطبيق), أي لا تصدع رأسي بالحديث عن المبادئ وأنت لا تطبقها فعليا ونجح في ذلك نجاحا منقطع النظير وخاض من أجل تحقيق ذلك معركة شرسة مع محيطه الاجتماعي من جهة وسطوة النظام الحاكم من جهة أخرى معرضا حياته وحياة عائلته للموت تحت مقصلة الجلاد.

انت شيوعي بالوراثة!!

ليس غريبا في زمن الطاغية إن يحارب كل من كان شيوعيا يحمل فكرا مضادا لأفكار النظام وليس غريبا أن تشمل أسرته وأبنائه في تلك الحرب رغم صغر سنهم حتى وإن ترك ذلك الشخص العمل الحزبي والسياسي وأختار أن يكون مستقلا بعيدا عن أي تنظيم سياسي (شيوعي بالتحديد) في ظل حكم شمولي كان يزرع المخبرين حتى في أدمغة الناس للغوص في أعماقها كي تتأكد بأن هذه الأدمغة لا تحمل فكرا سياسيا معاديا لفكر البعث وفكر القائد الضرورة وإلا فأن مصيرها التفجير برصاص فرق الإعدام أو شلها عن التفكير بغسلها في أقبية السجون والمعتقلات وبشتى وسائل التعذيب والغريب في الأمر هو إنهم يعتقدون بأن الشيوعية تنتقل بالوراثة, فحين يكون الأب شيوعيا لابد أن يكون أبنائه شيوعيين بالوراثة وهذا غير صحيح أبدا, فمن يعيش ويتربى في بيت شيوعي لا يرث الشيوعية كفكر أو كسياسة إنما يرث ما هو أهم وأعمق من وجهة نظري وهو ثقافة الشيوعي وثباته على المبدأ فلا يوجد مثقف متحزب وفي كل الأحزاب في العالم يضاهي ثقافة الشيوعي وموسوعيته وسعة وعيه وإدراكه لأن الشيوعي ببساطة قاريء نهم يقرأ أكثر مما يأكل لأن همه ينصب في تغذية عقله لا في ملأ بطنه.

التهمة الجاهزة

كان هناك من يتوقع بأن الحرب على الشيوعية والشيوعيين قد انتهت أو سوف تنتهي بمجرد سقوط الصنم عام 2003 لا سيما وإن الشيوعيين عانوا ما عانوا وكانوا من أشد المعارضين لحكم الطاغية ووقفوا بحزم وثبات لسنوات طويلة وناضلوا وضحوا أكثر من غيرهم, لكن الواقع اثبت العكس فقد استمرت تلك الحرب وبطريقة أكثر شراسة ووحشية بعد العام 2003 مع ازدهار الأفكار الدينية وتمدد الإسلام السياسي وترسيخ الفتاوى الغريبة العجيبة في العقل الجمعي للمجتمع والاعتماد على الغيبيات في كل شيء ونشر الخزعبلات التي يطرحها المنجمون, وهنا ستكون متهم بنفس التهمة لكنها بتوصيف جديد وهو أنك ستكون متهم بمعاداة الدين والمذهب (مثلما تتهم إسرائيل كل من ينتقد سياستها القذرة بأنه معاد للسامية)!! فبعد أن كنت معاديا لأفكار الحزب القائد أنت اليوم معاد للدين لأنهم لا يستطيعون أن يثبتوا عليك تهم الفساد التي اقترفوها باسم الدين فيحشروك في خانة الكفر والإلحاد؟!! فَتُزَجُ مرة أخرى في حرب عقائدية لا طائل لها وتقصى من مكانك لتتم المباركة للفاسد والسارق المتستر بالدين والمذهب بتولي المناصب العليا تحت غطاء ديني يحميه مما تقترف أيديه من أفعال مشينة وسرقات منظمة للمال العام بينما تبقى تهمة الشيوعية التهمة اللصيقة والجاهزة لكل ناشط مدني يقف في وجه الفساد والظلم ولكل نزيه وشريف ولا تسقط عنه رغم نزاهة وابيضاض يديه لأنها ببساطة توظف توظيفا دينيا غيبيا مبنيا على الكفر والإلحاد رغم أن الكثير من شيوعي اليوم صاروا صائمين مصلين حاجين لبيت الله الحرام مساهمين في كل الطقوس الدينية.

أقرأ أيضا