تعود فكرة الحلم الأمريكي الى اعلان الاستقلال الذي تبناه الكونغرس في الرابع من تموز عام 1776 والذي جاء نتيجة لاستقلال ثلاثة عشر ولاية امريكية عن التاج البريطاني آنذاك، فقد نصت الفقرة الثانية من هذا الاعلان على أن “كل الناس قد خلقوا متساوين وأن لهم بعض الحقوق غير القابلة للتغيير”، والتي تضم “حق الحياة والحرية والسعي وراء تحقيق السعادة”.
بالطبع فإن هذا الحلم لم يتحقق على أرض الواقع، لأن أمريكا كانت حتى عقود قريبة تعامل الناس على إنهم طبقات، طبقة العبيد والخدم (الاصول الأفريقية، المكسيكية، سكان امريكا الاصليين أو ما يطلق عليهم بالهنود الحمر) وطبقة السادة (البيض)، وكانت العنصرية البغيضة قائمة طيلة قرون تتحكم بها قوانين وضعية صارمة تعطي حقوقا كبيرة للأمريكي الابيض على أنه السيد وله الحق في امتلاك الأرض والبشر، في حين انها تحرم الملونين من أبسط حقوقهم بما فيها حق الحياة، وكانت تلك الطبقات تُعامَلْ معاملة غاية بالسوء، بل أسوأ من معاملة الحيوانات، ولم تصنفهم تلك القوانين تصنيفا بشريا معينا مثلما صنف الزعيم النازي هتلر الشعوب على اساس عنصري تفضيلي الى طبقات بشرية عليا تستحق الحياة يتصدرها العرق الآري الالماني وسفلى لا تستحق الحياة كاليهود والغجر والمعاقين فهم مجرد عبيد وخدم خلقوا ووجدوا لخدمة السيد الابيض، يبيعهم، يشتريهم، يقتلهم، يغتصب نساءهم، يستغل اطفالهم في العمل..الخ، واستمر الحال على هذا النسق لمئتي عام بعد اعلان الاستقلال ليناضل أولئك المحرومون المضطهدون وينتزعوا حقوقهم من البيض بالارواح والدماء، ورغم كل تلك التضحيات فقد ظلت آثار العبودية قائمة حتى يومنا هذا، تارة تكون مستترة، وتارة أخرى تكون معلنة بشكل صريح، فهناك ولايات أمريكية عديدة ما زالت تعامل الملونين معاملة فضة وتضطهدهم وتعتدي عليهم جسديا تحت مظلة القانون تصل احيانا حد الموت مثلما حدث قبل سنوات عندما قتل شرطي أبيض مواطنا أمريكيا من أصول افريقية في مدينة منيابولس في ولاية مينيسوتا الامريكية يدعى جورج فلويد أمام كامرات وأعين المئات ولسبب تافه وغير مبرر أثار غضب الالاف من الافارقة الامريكان الذين خرجوا غاضبين محتجين مخلفين أضرارا بالممتلكات الخاصة والعامة قدرت بالمليارات كرد فعل على المعاملة التعسفية التي أشعل فتيلها مقتل فلويد والذي ادانته منظمات أمريكية محلية ودولية أخرى، ولم تتوقف تلك الاعتداءات، سواء من الشرطة أم من غيرهم بل ما زالت تتكرر بين الحين والآخر لتعيد للأذهان فكرة العبودية والعنصرية التي تتنافى كليا مع الحلم الأمريكي.
عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض وفوزه في الانتخابات الاخيرة ضد كاميلا هاريس كان قد وعد مؤيديه اكثر من مرة خلال السباق الانتخابي بتحقيق الحلم الأمريكي وهو نفس الوعد الذي وعد به مؤيديه خلال حملته السابقة أمام هيلاري كلينتون عام 2016، لكنه لم يحقق ما وعد به، بل قضى على أحلام شريحة كبيرة من الطبقة الوسطى لأن الرأسمالي المتعالي لا يأبه لشيء سوى دعم الطبقة المخملية التي ينتمي لها ويرى المهتمون بالشأن الأمريكي ان عودته للبيت الابيض سوف لن تغير من الواقع الأمريكي المثقل بالمشاكل وسوف لن يتحقق الحلم الأمريكي وربما حتى الوعود التي قطعها على نفسه لأنه سوف يكرس جهده خلال الفترة القادمة لدعم عجلة الرأسمالية الامريكية وإضعاف منافسيها الأقوياء كالصين وأوربا مثلما سعى لها في فترة رئاسته الأولى.
ترامب الملياردير المثير للجدل الذي عاد بقوة الى البيت الابيض -بالرغم من كل التهم التي وجهت اليه والفضائح التي رافقته طيلة حياته بما فيها الفضائح التي لاحقته خلال فترته الرئاسية السابقة ناهيك عن كم الفضائح التي كان بطلها منذ فترة شبابه الاولى- يبقى ذلك المقامر والمخادع والمغامر والمتعالي الفض والسياسي الوقح الذي لا يؤمَنْ له ولايمكن ان يُؤخذ منه وعد، ميكافيللي يعكس شخصية رجل الغرب الأمريكي (الكاوبوي) بامتياز، شخصية المقامر الذي لا يبالي حتى بحياته حين يقامر على الرصاصة الأخيرة في مسدسه ليصوبه الى رأسه ويطلق الزناد لينجو منها بجدارة ويستخدم نفس الرصاصة ليقضي بها على خصومه للأبد، مخادع من الطراز الأول، خدع البنوك وأقنع كبار المستثمرين والمليارديرات لتمويل مشاريعه العقارية الضخمة ومني بخسارات فادحة وصل حد الأفلاس ليقترض الملايين من البنوك لأحياء حفلاته الصاخبة، متلاعب محترف بالقانون يحيط نفسه بشبكة محامين لا يقلون عنه خداعا ومكرا، زير نساء مفضوح لا يخجل من الفضائح حتى وهو في هذا العمر، تلاحقه فضائح التحرش الجنسي واستغلال النساء اينما حل، متهور في قراراته، أخرج الولايات المتحدة من معاهدات واتفاقيات دولية مهمة، اعترف بالقدس عاصمة لأسرائيل ضاربا مشاعر المسلمين عرض الحائط، ابتز السعوديين بمئات المليارات، طالب الكويتين بدفع ثمن تحريرهم من الاحتلال العراقي عام 1990، اصدر قرارا بمنع مواطني دول عديدة من دخول الولايات المتحدة، حاول الغاء قانون الرعاية الصحية (اوباما كير) الذي كان بمثابة الكارثة الذي لولا عدم التصويت عليه لكان كارثة للملايين، وعشرات الفضائح والأسرار التى كشف عنها كتاب “نار وغضب”.
لقد كشف ترامب عن حقيقة وماهية الحلم الأمريكي التي لا تعدو ان تكون حلم الرجل الامريكي الأبيض الذي يستغل عرقه ونفوذه وسلطته لفرض ما يريد وتحقيق مايصب في مصلحته ومصلحة الرأسماليين الامريكان غير عابئ بما يحيط به وبمن يعيش بمحيطه فالكل في نظره عبيدا وخدم، ولا يبدو من تجربة حكمه السابقة انه سوف يحقق الحلم الامريكي لأن هذا الحلم لو تحقق فعلا فلن تكون أمريكا هي أمريكا ولن تبقى الرأسمالية التي تسحق المعدمين قائمة ولن يبقى حتى ترامب نفسه، الرجل الذي يعكس صورة الأمريكي الحقيقي التي تتجسد في هيئة رعاة البقر القتلة الذين يعتاشون على عرق ودماء العبيد.