لسنا في محضر الدفاع عن السعودية في جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي، لكنني بصدد الحملة الإعلامية الزائدة عن الحد في الهجمة على السعودية. كذلك لسنا بصدد استنكار موقف المجتمع الدولي للجريمة البشعة، المدوية هي الأخرى، أو عدم الإهتمام بها.
لكن ما يجري يحتاج الى وقفة متأنية للتفكير والمراجعة، خصوصاً في ما يتعلق بإهتمام الدول الغربية، ومنظماتها المدنية والكثير من وسائل الإعلام.
لا أجد داعياً الى التذكير بحقيقة النظام السعودي، ودوره التخريبي في وأد الإفكار التنويرية والثورية التي كانت تلوح في أفق المنطقة العربية في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، فضلاً عن دوره التآمري في القضايا السياسية التي تهم المنطقة العربية.
لقد فات على الكثيرين إن الهجمة الدولية على السعودية، بدواعي إغتيال خاشقجي، لاتتناسب مع فعل الجريمة البشعة بالقياس الى الصمت والإهمال في جرائم اسرائيل بحق الفلسطينيين على مدى سنين طويلة.
ويفوت على الكثيرين ايضاً موقف المجتمع الدولي من غزو العراق، وعمليات القتل الممنهج لعلمائه، ورجال الفكر، والعشرات من الصحفيين العراقيين، وفضائح التعذيب في سجن أبو غريب. ولعل من حق البعض ان يتساءل: أين كان المجتمع الدولي ومنظماته المدنية عندما تناثرت أشلاء الروائي والكاتب والصحفي “غسان كنفاني” بعبوة إسرائيلية وسط بيروت؟
وماذا كان موقف الحكومة البريطانية عندما قام الموساد الإسرائيلي بإغتيال رسام الكايركاتير الفلسطيني “ناجي العلي” في إحد شوارع لندن؟
وما كان موقف الدول التي تبدي اشمئزازها من إغتيال خاشقجي، عندما ظهرت على شاشات التلفزيون مشاهد جنود الإحتلال الإسرائيلي، وهم يطلقون الرصاص على الطفل الفلسطيني محمد الدرة، حتى سقط قتيلاً يتلوى في حضن والده؟
وأين كان صوتهم عندما جرى إغتيال علماء الذرة العراقيين على إراضيهم؟ ماذا كا موقف أميركا والدول الغربية تجاه إسرائيل؟ وأين كان اعضاء من الكونغرس الأميركي، المستشاطون غضباً لإغتيال خاشقجي، من المذابح التي بحق مئات الألاف من مسلمي الروهينا في مينامار على يد القوات الحكومية، وهي دولة عضو في الأمم المتحدة، والذين لايزالون مشرودن على حدود دول الجوار في بيوت الصفيح؟
ما الذي فعله لهم المجتمع الدولي لحكومة مينامار؟ والقائمة تطول..وتطول.. لسنا في وارد المطالبة بما يجري اليوم في العراق بالمضي على معادلة ” طمطملي .. وأطمطلك “.. لكن الشي بالشيء يذكر.
ليس طبيعياً أيه السادة ان يقفز خاشقجي، وهو الصحفي المغمور، بهذه السرعة الى واجهة المصائب التي تواجه شعوب العالم، وفي الوقت نفسه يجري فيه قتل العشرات من الفسطينيين المتظاهرين ضد الإحتلال وبشكل يومي. لا يملك الخاشقجي اية مواقف عربية أو قومية سوى انه من المعارضين للنظام السعودي.. والمعارضون كثر.
كل وسائل الإعلام التي تريد من خاشقجي ان يصبح شهيداً للصحافة، أو رمزاً للحرية، لم تتناول تفاصيل حياته كما جرت العادة في مثل هذه الأمور، ولم تتطرق الى الثروة التي جناها والده عدنان خاشقجي من الصفقات المشبوهة، لعل أشهرها صفقة السلاح الإسرائيلية الى إيران خلال الحرب العراقية الإيرانية، كان الغرض منها إطالة زمن الحرب، ولم يتحدث أحد عن خاشقجي الإبن حول مواقفه المؤيدة لغزو العراق وإحتلاله، وانه كان حتى وقت قريب من المادحين للنظام السعودي قبل ان يتم دفعه لكي يكون معارضاً شخصياً لايعمل ضمن اي تنظيم معارض.
ليس سراً ان المال القطري يلعب دوراً كبيراً في التغطية الواسعة لجريمة القنصلية السعودية في تركيا، إن كان عن طريق شراء أقلام بعض الصحفيين، ام من خلال دعم مالي لبعض المؤسسات الصحفية، وحتى بعض المنظمات المدنية. وعلى الرغم من ذلك كله، تبقى جريمة إغتياله قضية تستحق أدانة النظام السعودي، وهي جريمة لئيمة لاينبغي ات تقتصر على خاشقجي لوحده، وانما بحق أي مواطن سعودي. اما استنفار دول العالم للقضية فانه يستدعي الى الذهن مصطلح ” الكيل بمكيالين”.
ثمة مكيال بادئ للعيان، يضغط في فضاء سياسي للبحث عن تنازلات وإثارة أزمات، وبالتالي إقامة تسويات، وإلا ما علاقة تجميد صفقات السلاح، أو حرب الحوثيين في اليمن، باغتيال خاشقجي؟ وثمة مكيال آخر يقابله يبحث عن مصالح، وصفقات، وأموال.. وبين المكيالين خيط رفيع، كأنه السراط المستقيم، تقف عليه السعودية متأرجحة، عارية من كل ملابسها، تبحث عن يغطي جريمتها.