صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

تشرين.. جبهة ثالثة

احتفل ثوار تشرين أمس (1 تشرين الأول أكتوبر 2020)، بالذكرى الأولى لانتفاضتهم الفريدة، فملأوا الساحات هتافا في محاولة لاسترجاع زخم التظاهرات التي حققت مكتسبات ونزفت خسارات، غير أنها شكلت علامة فارقة في تاريخ العراق الحديث، ليس بوصفها أول انتفاضة سلمية منذ عقود، بل لأنها أحدثت موجة من التحولات الاجتماعية والسياسية الهائلة، كان من بينها إسقاط حكومة دائمة لأول مرة منذ وثبة كانون 1948 (سقوط حكومة صالح جبر) التي لم تشهد ما شهدته انتفاضة اليوم، من شعبية واتساع وتأثير.

تلك التحولات تجلت في بروز جيل جديد شكل العمود الفقري للاحتجاجات الشعبية، لاسيما ممن ينتمون للفئة العمرية التي تراوحت بين 15 و25 عاما، أي أن أكثر هؤلاء لم يعيشوا حقبة الدكتاتورية (عهد صدام حسين) فيعتادوا على الخوف والتدجين والترويض، وهذا ما يفسر تحديهم لماكنة القمع السلطوي ومجابهتهم الرصاص الحي بصدور عارية وبسلمية أذهلت العالم، كما أنهم لم يتلوثوا بعقد الطائفية التي بلغت ذروتها بين 2005 و2007، حيث كان معظمهم في سن لا يسمح لهم باستيعاب ما يجري، فضلا عن أن أبناء هذا الجيل اتسموا بالانفتاح على الآخر البعيد عنهم، والتأثر والتأثير به ومحاكاته، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي واستخدام التكنولوجيا الحديثة التي باتت تشكل جزءا لا يتجزأ من حياتهم ويومياتهم، لذا فهم لا يشبهون أسلافهم الذين نشأوا على الخوف من السلطة، أو القناعة بما يرونه يوميا من شوارع رثة وخدمات متواضعة، فكان ذلك دافعا من دوافع رغبتهم العارمة بتغيير الواقع.

وبفضل العقلية الشابة المتحررة التي قادت هذا الحراك الفريد، فانه تميز بديناميكية مفاجئة للسلطات، فباغتها بأساليب متنوعة، وواجه قمعها برباطة جأش وتحدٍ جماهيري هائل، بعد إظهار هؤلاء الشباب قدرة فائقة على تحشيد الشارع وشد الأنصار، إنهم باختصار جيل قوي تمكن من إعادة تشكيل الهوية الوطنية وفق أسس صحيحة ترتبط بالأرض والمشتركات التاريخية والثقافية، وتبتعد عن الآيديولوجيا، متسما بالصدق والشجاعة وتحديد الهدف.

تميزت هذه الانتفاضة، بتحول كبير من خلال إدخال المرأة الى قلب الحياة السياسية والاجتماعية، ففي تظاهرات 25 شباط فبراير 2011، وما تلاها في 1 آب أغسطس 2015 والتي عشناها وشاركنا فيها، لم تكن المرأة تشكل رقما مهما فيها باستثناء نساء معدودات شكلن ديكورا لا أكثر، أما انتفاضة تشرين 2019 فقد أحدثت ثورة اجتماعية هائلة في هذا المجال، ومنحت المرأة الشابة أدوارا قيادية داخل المجتمع، وليس أدل على ذلك من اغتيال وخطف العديد من النساء المؤثرات، والتي كان أحد أهدافها هو تخويف الأهالي، والضغط عليهم لتقليل زخم التظاهرات، التي باتت مصدر رعب للسلطات.

الأهم من كل ذلك، هو القدرة الفائقة لهذه الانتفاضة على استنهاض أصوات الأغلبية الصامتة التي وجدت فيها متنفسا حقيقيا، جعلها تشعر لأول مرة بأن هناك من يمثلها في الواقع، فشعر أبناء تلك الأغلبية التي عزفت عن الانتخابات، ورفضت ممارسة حقها في الاختيار، شعروا بالانتماء الحقيقي للانتفاضة وقادتها ممن عمدوا مسيرتهم بالشهادة والنضال الحقيقي، وهذا ما رفع من أسهم الانتفاضة التي بات الجميع يخشاها ويسعى لخطب ودها بهدف الحصول على أصواتها (الأغلبية الصامتة) التي ستغير الكثير من المعادلات السياسية في حال مشاركتها بأي انتخابات تلوح في الأفق.

من شأن هذه المعادلة تهشيم البنية السياسية الحالية القائمة منذ عقد ونصف والمبنية على وجود أحزاب وتيارات وقفت بالضد من انتفاضة تشرين، وحاربتها إعلاميا وأمنيا ومن خلال الاندساس في صفوفها والتسرب الى خيامها عبر محاولات حرفها أو النيل منها، ما تسبب بنقل الصراع السياسي الى ساحاتها كما حصل في واقعة جسر السنك واختيار مرشحي رؤساء الحكومات وغيرها.

عوامل عدة أدت الى تراجع زخم التظاهرات، أبرزها تصاعد عمليات الاستهداف اغتيالا وخطفا، بالاضافة الى الحظر الصحي الناجم عن وباء كورونا، فضلا عن تغلغل مجهولين مارسوا انتهاكات إنسانية نفرت كثيرين، إلا أن خيبة أمل المنتفضين وبعد عام على اندلاع انتفاضتهم بدأت تطل برأسها رغم استبدال الحكومة المتهمة بقتلهم والتي أثبتت عجزا عن إنهاء الانتفاضة بناء على رغبة الجبهة السياسية التي ساندتها، فحين اتجهت أنظارهم الى الحكومة الجديدة التي لبست رداء تشرين وسعت للظهور بمظهر الحامي للانتفاضة، لاحظوا فشلها في مواقف عدة لا تتناسب وحجم الرغبة في التغيير، فهي لم تضع حدا للخروق الأمنية بحقهم، ولم تكشف عن قتلة شهدائهم، ولم تنتصر لهيبة الدولة، ولم توقف نهج المحاصصة، بل أنعشته على مستوى الوزراء وشاغلي الدرجات الخاصة، ولم تفلح في إنقاذ الاقتصاد الوطني من شبح الانهيار التدريجي، ولم تسع لإيجاد بديل عن توفير الوظائف الحكومية من أجل استيعاب الشباب الخريجين والعاطلين، ولم تبتكر موارد مالية جديدة بدلا من الاقتراض الداخلي لتأمين الرواتب، فضلا عن تراجعها عن إحكام السيطرة على المنافذ الحدودية، ناهيك عن إجراءاتها المزاجية في معالجة ملف الفساد، وغموض تعاطيها المالي مع حكومة إقليم كردستان، بالاضافة الى تورطها في الموافقة على عقود مجحفة بحق الشعب، كما هو الحال مع تمديدها عقود شركات الهاتف النقال.

كل هذه الإخفاقات التي تسعى جبهة الحكومة الجديدة الى إخفائها خلف شعارات وفعاليات شكلية، ستطفح قريبا على السطح، لتظهر حقيقة سلوكها القريب من الطبقة السياسية المتورطة بالفساد والفشل والجريمة، وابتعادها عن مطالب الساحات، ما يُبقي عوامل الثورة قائمة ومخزونة بانتظار تفجّرها مرة أخرى في مشروع انتفاضة جديدة، أو عبر الإحجام مرة أخرى عن المشاركة في الانتخابات القادمة، ليتسبب فيما بعد بانسداد سياسي جديد.

يظل الأمر الأخير مرهونا بقدرة “الثوار” المستقلين على تنظيم أنفسهم وتشكيل جبهة ثالثة لا تمت للجبهتين المساندتين للحكومتين السابقة والحالية بصلة، تفضح أساليبهما في ركوب موجة الحراك أو قمعه على حد سواء، وتتمكن من استنهاض أصوات الأغلبية الصامتة التي نجحت بتحشيدها فيما سبق.

أقرأ أيضا