صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

تغييب التلاوة البغدادية

استَعدتُ جملة سائق التاكسي بجواري في بغداد بعد أن سألني ماذا أفعل في وجهتي إلى جريدة “الجمهورية”، قلت له “إنني أعمل فيها،” فرد بلا تردد وكأنه يعرفني منذ عقود “إنكم أيها الصحافيون لا تخافون من الله!”

لم ينتظر ردة فعلي على اتهامه، وهو يواصل الكلام بقوله “عندما يموت فنان فإنكم لا تتوقفون عن استعادة كل ما يمت بصلة إلى نتاجه حد المبالغة، لكنكم تتوارون بصمتكم عندما يرحل قارئ للقرآن الكريم.”

لم يمض آنذاك غير بضعة أسابيع على رحيل القارئ البغدادي الحافظ صلاح الدين عام 1991، فقال محدثي وهو يقود سيارته “ماذا كتبتم عن هذا القارئ الفذ الذي ودعنا قبل أيام.” ولأنني شعرت بألم تساؤله المشروع، لم أسأله إن كان يمت بصلة قربى للقارئ الراحل وهو الأرجح على ما أتوقع. قلت له “ستأتيك الإجابة بمجرد أن نصل إلى مبنى الجريدة.” وبالفعل تركته في سيارته وصعدت سريعا إلى الأرشيف وجلبت له نسخة من عدد سابق لجريدة “الجمهورية” كان قد كتب فيها الناقد الراحل عادل الهاشمي دراسة عن الحافظ صلاح الدين بعد أيام من رحيله. قلت له “تفضل” وأعطيته نسخة الجريدة التي كانت بمثابة إجابة عن تساؤله العادل.

لماذا أعود إلى هذه القصة التي مضى عليها أكثر من ثلاثين عاما؟ لأن مع أيام شهر رمضان المبارك تغدق علينا القنوات الفضائية بتسجيلات نادرة من التلاوة القرآنية البغدادية وكان من بينها ما سمعت من تلاوة مذهلة لسورتي القمر ومريم للحافظ صلاح الدين. فتحول تساؤل ذلك الرجل اليوم عما إذا كان العراقيون يحافظون على إدامة التلاوة القرآنية في زمن ترييف الثقافة واستبدال ترتيل القرآن الكريم بالمراثي الطائفية الفجة.

سيكون من المفيد العودة إلى القارئ صلاح الدين المولود في بغداد عام 1923 والمتوفى فيها عام 1991، بوصفه من بين كبار القراء العراقيين الذي تأخذ طريقته في التلاوة نسيجها الفني من المقامات العراقية “المخالف، الجبوري الإبراهيمي، المدمي، الحويزاوي” إلى جانب المقامات العربية “البيات والحجاز والصبا والحسيني.”

لم نكن نجد في نطق القراء العراقيين عوجا ولا نلمس في لهجتهم حرفا غير عربي النطق من خلال أصواتهم لتقريب الكتاب العزيز إلى الأفهام والعقول والقلوب. بينما يشكو لي أحد كبار الموسيقيين العراقيين اليوم من أنه يكاد يفقد السيطرة على مشاعره حد الغضب بمجرد سماع الأذان من حسينات ومساجد عراقية نسيت مقام الحجاز والمدمي العراقي وهي ترفع الأذان بطريقة فارسية حتى في لفظ كلمة الله!

القارئ صلاح الدين الذي فقد بصره صغيرا مكنه الله من حفظ القرآن على السماع ثم درس قواعد التلاوة على يد العلامة الشيخ إسماعيل الواعظ‏، وتأثر كثيرا بالحافظ مهدي‏، أحد كبار القراء العراقيين التاريخيين الذي كان ينتزع الأرواح والدموع معا عندما يتلو آيات الله البينات بمقام المخالف الذي لا يمكن إلا أن يكون عراقيا.

استطاع الحافظ صلاح الدين أن يمد طريقته على فترة زمنية عاشها قارئا موصول النجاح له طابعه الخاص مع تمكّن يتميز بالمعرفة التلقائية، وطريقته في التلاوة وفق الناقد الراحل عادل الهاشمي بكتابه “فن التلاوة: أصوات وأنماط” جعلت له مريدين وأسماعا كثيرة، وكان في أفق التلاوة البغدادية يبرز صوت جديد يختلف عن أصوات سابقيه ومعاصريه في معدن الصوت وطريقة الأداء ومذهب التغني.

وإذا كان الحافظ صلاح الدين كثير التحزّن في تلاوته، فهو بهذا الاتجاه يشكل أداء صحيحا مقترنا بالتلاحين اللازمة للتغني بالقرآن الكريم.

شكّلَ رحيل الحافظ صلاح الدين تساؤلا أساسيا حول مستقبل التلاوة البغدادية إذا علمنا أن أصواتا عديدة لا تستطيع أن تحمل إمكانية الحفاظ على تقاليدها الآخذة بها إلى نواحي التطور. فدعونا نبحث اليوم عمن يحفظ للتلاوة العراقية استمراريتها؟

أقرأ أيضا