الرئيس برهم صالح يعد تطوير أدوات القوة الناعمة واستخدامها بفاعلية في إصلاح العلاقة بين كردستان وبغداد ولا سيما محافظة كركوك والوحدات الإدارية المتنازع عليها أمراً ممكناً وضرورياً. ويلاحظ أن منصب رئيس الجمهورية مكلفا بذلك باعتباره رمزا لوحدة العراق ورعاية الدستور، وممراً مهماً لتيسير الحوارات بين الاحزاب والثقافات العراقية المختلفة لتحقيق المصالحات والتسويات وفق القانون السائد. خاصة مع بغداد التي تدفع إلى إمكانية بناء شراكة استراتيجية وطنيّة. وربما يعطي الأولوية هنا لأهالي كركوك في اختيار مصيرهم عبر الوسائل الديمقراطية التي نص عليها الدستور. وهناك تحديات ومنافع مشتركة بين الثقافات المتعددة في كركوك.
ينتظر من الرئيس برهم الصالح ان يقدم رؤية وخارطة طريق عملية من أجل تحديد فرص ومعوقات إصلاح العلاقات بين بغداد وكردستان بما يؤدي إلى بناء شراكة وطنيّة بين الطرفين وفقاً للمفهوم الوطني السائد في نصوص الدستور العراقي. ولعل ما يميز عملية الإصلاح الجديدة أنها تطرح بديلاً وطريقاً ثالثاً بعيداً عن معارك تقسيم الثروات والسلطات، كما أنها تسهم في دعم مقومات الأمن وتمكين الاستقرار ولا سيما من حيث تقاربها مع المصالح سكان تلك المناطق.
شهدت منظومة داعش انهيارات وتطورات في الشهور الأخيرة وخاصة في العراق وسوريا وليبيا وأفغانستان، وسيكون لها تداعيات على مسارها، وهجمات انتقامية، ومن أهم هذه التطورات قتال بتكتيك المقاتل الشبح والتمويل الذاتي والعودة الى استهداف القيادات المناطقية والتركيز على العمليات العشوائية في المناطق ذات الأغلبية الشيعية وتشجيع عمليات الذائب المنفردة.
ونتيجة لنجاح أمنية داعش بالحفاظ على البغدادي حيا رغم الجهود الدولية الساعية للقضاء عليه، سوف يبقى هذا التنظيم يمتلك القدرة على بناء وترميم نفسه تدريجيا، في دورة تنظيمية متكررة؛ مفارز صغيرة تصنع نواة صلبة، ونواة صلبة تصنع أذرع تنظيمية، وأذرع تصنع شبكات ارهابية وملفات تنظيمية متعددة الوظائف، بإرهاب السلاح وتجييش الحماسات الطائفية، وفي خدمة شعار احياء الخلافة “المزعومة”، تسعى تلك الجماعات الى التمهيد لأرض التمكين والى كسر الحدود وإلى تصدير نموذج داعش إلى دول العالم التي تضم مجتمعاتٍ إسلامية؛ بمعنى أن تنظيم داعش الله تحول إلى أنموذج لظاهرة إحياء الخلافة في المنطقة.
عمليات جهاز المخابرات العراقية ودوائر معلومات الداخلية، نجحوا الى حد كبير في فهم مقاربة داعش التنظيمية وتفكيك شيفرته في القيادة والإدارة والمنهج، من خلال تسليط الضوء على مجلس الشورى واللجنة المفوضة (الهيئة القيادية العليا في داعش)، واستكشاف بنيوتها القيادية والتشريعية والإدارية، وتحولاتها التأريخية والعقائدية والعسكرية والأمنية، واستشراف خياراتها المستقبلية، المحلية والإقليمية. ونأمل بأن يُسهم ذلك كله في فهم ظاهرة داعش والقضاء عليها فكريا ومعنويا وعسكريا، والوصول الى الخليفة المزعوم لقتله أو القبض عليه ..
تضاءلت الأدوارُ السياسية للأحزاب والقوى السنية التقليدية خلال فترة الحرب على تنظيم داعش بدرجات متفاوتة؛ إذ تعرَّض بعضها للانقسام، فيما فقد بعضها الآخَر جزءاً كبيراً من قدراته وقاعدته الشعبية والاقتصادية، مع تَصدُّر فاعلين جدد مثل قيادات الحشود العشائرية والمناطقية، وقوى المجتمع المدني، خصوصاً المنضوية في تحالف مع فصائل الحشد الشعبي والقريبة من رئاسة الوزراء.
اصبح “المحور الوطني” السني من أهم الأحزاب والتنظيمات السياسية الصاعدة بعد انتخابات 2018 والتي تحتفظ بمصادر متنوعة من القوة السياسية والاقتصادية في الداخل العراقي، ولديها قدرات إعلامية متفاوتة على التأثير في الرأي العام السني ودَفْعِه نحو التعايش أو المزيد من التنافر.
ونظراً إلى أن المحور الوطني قد تحالف مع القوى السياسية الشيعية القريبة من المحور الإيراني، فأنه سوف يحصد أكبر وأهم الحقائب الوزارية الخاصة بالمكون السني، وأصبحت قياداته اكثر طمأنينة تجاه حصتها من السلطة، سواء بوصفها فاعلاً محورياً في الشراكة البرلمانية أو شريكاً جديدا في الحكومة.
لاتزال الأزمة الاقتصادية العراقية سيدة الموقف وخاصة ملف البطالة والفقر وملف الخدمات الضرورية “الكهرباء والمياه”.. الجميع يراقب الخطابات الخاصة بالنخبة السياسية والوزراء الجدد في تعاملهم مع احتمالية عودة “الاحتجاجات” في البصرة، ويؤكد المراقب السياسي أن التأخر في تخفيف الأزمة سوف ينعكس سلبا على إنهاك “الحكومة الجديدة” في استنفاد طاقاتها وكشف ضعفها أمام الرأي العام والاحتجاج الشعبي، وهذا يضمن التفاف النخبة المدنية والمنظمات المجتمعية والشعب حول الاحتجاجات من جديد، ويعطي الانطباع دولي بوجود خلل في الحكومة الجديدة التي لم تخرج من قالب المحاصصة، ويمكّن من احتمالية عودة اصطفاف التيار الصدري ولو سياسيا مع مطالب الاحتجاج بعد نهاية فترة المائة يوم، ويفسح المجال لتنشيط “المعارضة البرلمانية” ضد الحكومة.
برنامج حكومة عبد المهدي لم يحدد موقفه تجاه هذه الاحتمالات، وقد يعيش حالة من المواقف والقرارات المتناقضة بين هذه الاحتمالات المعقدة.
المشهد السياسي العراقي الشيعي وصل إلى درجة متقدمة من التحول الى ليبروإسلامي، مما يصعب معه بقاء إيران كعامل حاسم وحيد في السيطرة على قرارهم كما كانت سابقاً، حيث اصبح الكثير من قيادات البيت السياسي الشيعي أصدقاء لأمريكا وحلفائها، ويتبنى زعيم التيار الصدري مواقفا اكثر مرونة إزاء العلاقات مع دول الخليج، وتسامحا دينيا بالتحالف مع قوى لادينية مدنية تؤمن بالمنهج العلماني والشيوعي في إدارة الدولة والعملية السياسية.
وصول أغلب الدول العربية إلى قناعة بضرورة الحفاظ على أمن العراق واستقراره والعمل مع حكومة عبد المهدي كأمر واقع وهذا يحتاج الى بدايات جديدة ورسائل للطمأنينة، والابتعاد عن عزله سياسيا، وهذا يفرض عليها إسناد القوى السياسية الشيعية الكبرى الأقل إلتصاقا بإيران، من خلال الانفتاح الدبلوماسي والاقتصادي والإعلامي.
أياً تكون النتائج القريبة والمتوسطة للحملات العسكرية والأمنية التي تخوضها القيادة المشتركة العراقية في كل صنوفها (الجيش العراقي، وقوات مكافحة الاٍرهاب، وقوات الرد السريع، وقوات الشرطة الاتحادية، وحرس الحدود والبيشمركة الكردية، والحشد الشعبي، والحشد العشائري) ضد تنظيم “داعش” في مناطق الحدود والمفتوحة والقرى المهجورة، فإن هناك تعاظما ملحوظا لكفاءات تلك القوات ولكنها تحتاج للمزيد من التدريب والتسليح والإعداد المعنوي والمحفزات، وستكون برامج تمكين الاستقرار تحت رعاية وعي قيادات هذه القوات ومدى انضباطها في تنفيذ قرارات القيادة السياسية الجديدة في بغداد.
قيادة هذه القوات اصبحت مختلفة عما كانت عليه قبل إعلان النصر العسكري نهاية عام 2017، وكذلك المرجعيات الحزبية التي جاءت بتلك القيادات لتولي هذه المناصب، وعليه سوف تتفاعل تلك القيادات مع مساحة نفوذها بحسب تأثرها الحزبي والهوياتي، ومنها لابد من اختيار قيادات أمنية وعسكرية بعيدا عن المحاصصة الحزبية والهوياتية.