في عزِ بغداد ومجدها، نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، أصبحَ الحديث عن (مترو بغداد) يشغل العراقيين باعتبارهِ معلماً مهماً من معالمِ بغداد الحديثة، يتوقع أن يتمَ إنشاؤهُ ليضاف إلى بقية المعالم الحديثة في ذلك الوقت، ويبعث فيهم الأمل نحو مستقبل واعد يضع مدينتهم النامية في ركب المدن المتحضرة التي يتنقل سكانها بالمترو، أو في مصاف المدن التي بدأت تخطط لشق أنفاقهِ وبناء محطاتهِ وتركيب عرباته. القاهرة والأسكندرية وإسطنبول ومن ثم دبي كلّها مدن خططت لذلك ونفّذت مشاريعها، وتنقّلَ مواطنوها بالمترو،مبتعدين كلياً أو جزئياً عن صخب الباصات والميكرو باصات بكل أنواعها وتشكيلاتها.
لا يمكن أن ننكرَ جدّية خطط الحكومة في ذلك الوقت، حيث تم اعداد تصاميم هندسية ووضعت تخصيصات مالية لتنفيذ مترو بغداد، كان الحديث الرسمي والشعبي يتناولها بإسهاب بإعتبارها مادة دسمة، ينتظر الجميع إقرارها لتضيف إلى مدينة بغداد المتطورة جمالاً وحيوية.على إثر ذلك، هناك من فكر في إيجاد بديل لسكنهِ،لإنَّ المتروالذي سَيمر في منطقة سكنهِ او مكان عملهِ يجعله ضمن قائمة تعويضات الحكومة السخية في ذلك الوقت، ومنهم أيضاً من كانَ يتغنى ويحلم بركوب المترو،ومنهم من يتمنى رؤية مدنية بغداد أجمل مع إنطلاقة تنفيذ مشاريع مخطط لها مسبقاً، لتلتحق بمجموعة المشاريع العملاقة قيد التنفيذ مثل شارع حيفا ومجمع الصالحية وجامعة بغداد ومطار بغداد الدولي، بالإضافة إلى المجمع الوزاري الذي يشمل المنطقة الممتدة من باب المعظم إلى مناطق الشيخ عمر والكفاح وصولاً إلى باب الشرقي جنوباً .
للأسف ضاعت وتبددت أحلام الحالمين والمتطلعين إلى تجديد وتطوير بغداد، الحرب مع إيران أَجّلت إلى أجل غير مسمى مشاريع عملاقة أهمها مترو بغداد الموعود، وجاءت بعد ذلك القشة التي قصمت ظهر البعير، وهي غزو الكويت وما تلاه من أعباء اقتصادية وسياسية واجتماعية على حكومات وشعب العراق على مدى ثلاثة عشر عاماً، شَمِلت حصاراً اقتصادياً مفروضاً من قبل الأمم المتحدة على العراق، وضربات جوية تقوم بها الولايات المتحدة وحلفاؤها.
ثم جاءَ الاحتلال بكلِ مسمياتهِ وتوصيفاتهِ عام 2003،ليضع العراق أمام منعطف خطير أوصلهُ إلى الفوضى والحروب والفساد. في بداية الأمر، تأمل الجميع أن تستعيد بغداد ألقها وتنهض لتعود فكرة المترو من جديد وتتخذ أشكالاً جديدة، لتتخطى الفجوة الزمنية وتستفيد من التطور الحاصل في إنشاء أنفاق المتروفي العالم ملتحقةً بركب المدن المتحضرة في أوربا وأميركا وآسيا وأفريقيا .لكن لم يحدث شيء وكأن بغداد لا تعاني من نقص في وسائط النقل!! جاءت الموازنات الإنفجارية وخلت كلّها من مشاريع ستراتيجية مهمة مثل مترو بغداد وميناء الفاو الكبير ومطار بغداد الكبير وغيرها من مشاريع البنى التحتية والفوقية.
ما أضيق العيش لولا فسحة الامل.. الأمل ما زال موجوداً بظهور مخاطبات وتصاميم، بل تخصيصات مالية في موازنة 2019تبشربإنطلاق مشروع مترومعلق، يشق مدينة بغداد من شمالها إلى جنوبها ومن غربها إلى شرقها، على الرغم من ضعف ماموجود في الموازنة الحالية،إلا إنها شملت تخصيص إستثماري لإنشاء مترو معلق لبغداد، تقوم بتنفيذه شركة هونداي الكورية، ومن ثم يزود لاحقاً بعربات القطار من قبل شركة الستوم الفرنسية، كلام مشجع ويبعث في النفس الأمل يجعلنا نقول إِنَّ عادل عبد المهدي وحكومته قد يكونا آخر حلقة من حلقات مشروع مترو بغداد القديم الجديد..
يتزامن مع ذلك، ظهور وسائط نقل غريبة تغزو العاصمة بغداد وتسمى باللهجة الدارجة بـ(التكتك)، سبق لي أنّ رأيت هذه الوسائط في عدد من المدن المكتظة بالسكان مثل ( القاهرة، شناي، نيودلهي، كراتشي )، المدن المتحضرة تحاول قدر الإمكان ترحيل العجلات ذات الموديلات القديمة وتبقي نسب معينة من العجلات وذلك للحفاظ على البيئة الصحية والحالة الجمالية والنفسية لمدنها، دخول التكتك إلى بغداد يدعو إلى القلق ويعتبرمؤشراً على بؤس وتخلف المدن الحاضنة له.
حالياً، أصبح لدينا وسيلتان جديدتان للنقل تدخل العاصمة بغداد، الأولى (التكتك) بدأت العمل ودشنها الركاب داخل مدينة بغداد وبالأخص في المناطق المكتضة بالسكان في مركز المدينة، ومن المتوقع لها أن تنتشر إنتشاراً واسعاً في أغلب أحياء وأزقة بغداد لإسباب عديدة اهمها : أسعارها الرخيصة التي تمكن أي عاطل عن العمل من أن يسترزق من خلالها، وهي ملاذ مؤقت للكثير من العاطلين عن العمل في العاصمة بغداد التي يقطنها حوالي ثمانية مليون نسمة، وهي أيضاً مقبولة لكثير من الركاب لرخص أجرتها ولقدرتها على دخول أضيق الأماكن.
الوسيلة الثانية المترو المعلق الذي يُنتظر إنطلاق العمل به قريباً ليلف بغداد من شمالها إلى جنوبها، من مفارقات مدينة بغداد وعدم انتظامها أن نشاهد نقيضين في مكان واحد، المترو دلالة على تطور وازدهار المدن، والتكتك دلالة على تخلف وبؤس المدن. تنظيم المدن يحتاج إلى خطط ستراتيجية ترحل كل ما يدعو إلى التخلف وترحب وتطور كلما يجلب الحيوية والجمالية.