صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

تمدد الرياضيات وانكماش الوعي

يؤكد غاي دويتشر في كتاب؛ (عبر منظار اللغة) أن البشرية في وقت كتابة هوميروس لإالياذة لم تكن تَعْرِف اللَّون الأزرق، ولذلك جاءت هذه الملحمة، كما بقية النصوص المكتوبة في وقتها، خالية من الاشارة إلى هذا اللَّون. وهو أمر دفع بعض الباحثين إلى الاعتقاد بأن الحسَّاسيَّة إلى الالوان تطورت في الالفي سنة الأخيرة، ولذلك صرنا قادرين على تحسس اللون الأزرق. لكن سرعان ما تم التأكد بان الموضوع لا علاقة له بالتطور، بل باللُّغة واستعمال الإنسان لها. فقديما لم يجد البشر أن هناك حاجة إلى الفصل ما بين الأزرق والأخضر، فاعتبروهما لوناً واحداً. وكما أن هناك ثقافات لا تميز بين أوقات اليوم كما نفعل نحن عندما نقسمه إلى؛ (صباح وضحى ومنتصف نهار وعصر ومساء.. الخ) بل يكتفون، مثلاً، بتقسيم اليوم إلى نهار وليل، كنّا نحن نفعل ذلك مع الألوان. لكن عندما تطورت الثقافة البشرية وظهرت الفنون وزاد استعمال الناس للالوان، صارت هناك حاجة ملحَّة للفصل ما بين الاخضر والازرق. وهكذا تم وضع اسم لهذا الامتداد الموجي.

ما يهمني في هذا الموضوع هو عملية وضع الاسم وابتكار المفهوم. فعندما احتاج الوعي البشري إلى وضع اسم وصياغة مفهوم للامتداد الموجي الخاص باللون الازرق لم يواجه صعوبة. حيث كان من السهولة أن تتسالم الثقافات، تدريجياً، على حقيقة أن المساحة الموجية التي تبدأ بالتردد كذا وتنتهي بالتردد كذا، هي لون مستقل. ثم تعمل كل ثقافة على اختيار اسم لهذا اللون. أما المفهوم فسيكون واحداً وهو المرتبط بمساحة الترددات. لهذا السبب لم يحدث أن شكك أحد ما بكون الأزرق لون مثله مثل بقية الألوان.

هذه العملية تمثل الشكل الطبيعي لوضع المفاهيم من قبل الوعي واختيار اسمائها. حيث يجب أن يكون الشيء المدلول عليه من قبل المفهوم شيئاً مُدْركاً، باي شكل من أشكال الإدراك، وقابلاً للتصنيف. أما إذا واجه الوعي البشري آثاراً تدل على وجود شيء، لكن هذا الشيء غير قابل للإدراك ومن ثم التصنيف، فهنا سيتعرض إلى أزمة تجعله مخيراً بين أن يتجاهل المؤثِّر ولا يضع مفهوماً أزائه، وهو ما لا يحدث إلا في حالات نادرة، أو أن يضع المفهوم لكن خارج إطار العملية الطبيعية، حيث ستكون عملية التصنيف غير دقيقة. ما يضع الشيء المُسْتَدل عليه بالمفهوم الجديد مُصَنَّفاً ضمن صنف اجنبيٌّ عنه. وهذا ما حدث مع مفاهيم الفيزياء النظرية الحديثة مثل (الثقب الأسود، نسيج الزمكان، المادة المظلمة، الانفجار العظيم) وهكذا. لكن قبل أن استرسل بشرح تفاصيل هذا الموضوع أريد أن ابرر تركيزي على الفيزياء النظرية، وهو أمر يوقعني بحرج شديد يواجهه كل من يكتب في مجال بعيد عن اختصاصه، لكنني مضطر إلى ذلك من اجل الابتعاد عن مناقشة موضوع دائرة الوعي المغلقة من داخل مساحة الاديان والفلسفات الإلهية، حتى لا يبدو وكأنني استهدف الأديان الأمر الذي يبتعد بي عن الهدف الحقيقي الذي اسعى اليه، أقصد تقييم عملية الوعي البشري وترسيم الحدود التي تقيدها.

إذاً ما الفرق بين وضعنا لمفهوم اللَّون الأزرق وبين وضعنا لمفهوم (الثقب الأسود)؟ ولماذا نعتبر أن المفهوم الأول واضح بينما الثاني مشوش؟

لنلاحظ جمعنا بين عبارتي ”الثقب“ و“السواد“، ونسأل أنفسنا؛ هل أن التشابه ما بين سقوط الأشياء في حفرة ما وما بين اختفاء الكتلة والطاقة في الفضاء كافٍ لوضع السبب الذي يقف وراء هذا ضياع الكتلة ضمن صنف الحُفر التي تضيع داخلها أو عبرها الأشياء؟

للوهلة الأولى يبدو أن التشابه كافٍ. لكن عندما نقارن مع عملية وضع مفهوم اللون الازرق، سنجد باننا هناك ادركنا اللون نفسه، وهو موضوع الدلالة في المفهوم، أما هنا فادركنا آثار موضوع الدلالة فقط وليس الموضوع نفسه. الأمر يشبه فيما لو تعرض احد منّا إلى وخزة وهو يقف بمكان مظلم تماماً، فصار عليه أن يختار بين أن يكون السبب لسعة بعوضة أو وخزة دبوس من كائن ما، او مجرد تنمل في الجلد.

مفهوم (الثقب الأسود) يُصَنِّف مدلوله ضمن اصناف الثقوب، فهل هو كذلك؟ أعتقد بان العلماء لا يقصدون ذلك بشكل حرفي، إذا فلماذا اختاروه؟ الجواب، إذا لم أكن مخطئا، هو أننا في وقت سابق كنّا قد اخترانا مفهوم النسيج لنصف به ارتباط الزمان بالمكان، ومع أن آينشتاين عندما اختار هذا المفهوم لم يقصده بشكل حرفي، لكنَّ حمولة الفهوم اضطرت الوعي إلى التعامل مع الزمكان باعتباره نسيجاً، ومن هنا صار لزاماً عليه أن يستنتج بان انهيار نجم ما وتركز كتلته الهائلة في مركز صغير واستمراره بالضغط على نسيج الزمكان سيؤدي حتماً إلى إحداث ثقب فيه. وهكذا ظهر لدينا مفهوم الثقب الأسود كما افهم. لكن هل أن الزمكان نسيج فعلاً؟ وهل هو قابل لان يحدث فيه ثقب يبتلع الطاقة والكتلة، ولا يمكن أن يهرب منه أي شيء؟

من المؤكد أن الموضوع ليس بهذه السطحية والبساطة. لكن ومن من جهة أخرى، بالتأكيد أن هناك تشويش، فمن جهة لدينا آثار تدل على حدوث أشياء غير مألوفة، ولا قابلة للإدراك. ومن جهة أخرى نحن نصنف هذه الحوادث ضمن الأشياء المألوفة! فاضطرارنا إلى استعمال مفهوم النسيج  لتفسير التأثير الذي تحدثه الكتلة بالمكان والزمان، كان قد صنَّف هذا التأثير، الجديد وغير المألوف والذي لا يمكن ادراكه، ضمن الاشياء القديمة والمألوفة والتي ادركناها سابقاً. ولاحظ معي كيف أن الرياضيات هنا تتقدم بين يتراجع الوعي. هي تعطيه نتائج جديدة وهو يضع النتائج في خانات إدراكية قديمة كع إجراء تعديلات تحاول أن تتجاوز الارتباك الواضح.

قد يعترض معترض، ويقول ما هي الغاية من وراء التشكيك بقدرة الوعي البشري على المطاولة في إدراك الواقع الذي يزداد تعقيداً أمامه؟ وإذا كانت التجارب العلمية التي تقوم على مفاهيم مشوهة، تؤدي الغرض منها، فلماذا نتفلسف ونحاول تعقيد الأمور؟

حسن، الجواب على ذلك يكمن بأهمية التمييز بين موضوعين؛ الأول هو نتائج التجارب العلمية أو المعادلات الرياضية التي تقود الفيزياء النظرية. والثاني هو عمليات التفسير التي يحاول عبرها الوعي البشري مجاراة ومواكبة العملية الأولى، فيقدم تفسيرات تساعدنا على الاستمرار بالعملية البحثية العلمية. إذ من الواضح أن هناك علاقة جدلية بين الطرفين، ولا يمكن أن تستمر العملية الأولى من دون حدوث التراكم الذي يستند على الفهم الدقيق وهو ما تعمل عليه العملة الثانية، وفي حال وقعت إحدى العمليتان في تشويش، فإن هذا التشويش سيؤثر، بشكل أو بآخر في العملية الاخرى. وإذا اغفلنا هذا التشويش فستكون النتيجة أن العملية الأولى تتمدد أما الثانية فستنكمش، بمعنى أن الرياضيات ستستمر بالتطور أما عمليات التفسير فتستمر بتكرار نفسها. فإذا استمرت العملية على هذا المنوال فان انكماش الوعي البشري سيصل حدوداً تمنعه من القدرة على الاستمرار بأداء دوره القادر في معادلة التراكم العلمي.

أقرأ أيضا