إذا كنت في العقد الخمسين او الستين من عمرك وكنت تعيش في العراق طيلة هذه المدة فمن المعيب أن لا تكتشف بأن خطأً فادحاً ارتكب ولازال يرتكب. من الذي ارتكبه؟ واين يكمن؟ بلغة مبسطة، أَهُمُ الناس، أم الحكام؟ هل هو المجتمع أم السلطة؟ وهذه السلطة هل هي السلطة السياسية كما اعتاد المحتمع ان يفهمها هكذا، ام سلطات اخرى؟
إن معظم العراقيين لايدركون من السلطة سوى شكلها السياسي المتمثل بالسلطة السياسية صاحبة الإرغام المادي والتي عادة ما يتم اختزالها بعبارة (الدولة)، في حين هي تشمل (سلطات) وليس سلطة واحدة، كسلطة العشيرة وسلطة الدين وسلطات اجتماعية وثقافية اخرى لها تاثير ابلغ احيانا من السلطة السياسية، هذا التأثير الذي يتمثل بتعزيزها لمنظومة القيم التي يحملها الافراد والجماعات. وعلى هذا الاساس لدينا طيف واسع من السلطات، اي منها مسؤول عن الكوارث التي حلت بالعراق؟
لقد تحول العراق خلال ال60 سنة الماضية شيئا فشيئا الى جزيرة قراصنة:حروب داخلية وحروب طاحنة مع الجوار ثم مع العالم اجمع. حكم القبيلة، وحكم الفرد، وحكم العصابات، ومؤسسات قمعية وسجون وتعذيب وهتك للاعراض وتغييب ومؤامرات واغتيالات وإعدامات ومقابر جماعية. شهداء حروب، وجرحى ومعاقين دائميين. وقطار لاينتهي من الارامل والأيتام. إرهاب دولة وإرهاب تنظيمات. مافيات وسرقات مليارية حصل فيها العراق على (شرف) المراتب الاولى عالميا في الفساد.
من الطبيعي ان الكثير من المجتمعات فقدت اثناء الحروب او الكوارث الطبيعية الكثير من ابنائها، ولكن ذلك كان على مدى سنة او سنتين او بالكثير اربع سنوات مثل الحرب العالمية الاولى والثانية. لكن ماذا يتذكر من عاش سنوات عمره في الخمسين او الستين سنة الاخيرة في العراق؟ كل سنة عاشها كان يرى فيها جنائز الموتى تمر امام عينه او يسمع بها؛ شيوعيين اعدمهم النظام، إسلاميين اعدمهم النظام.، لامن هؤلاء ولامن هؤلاء ولكن اعدمهم النظام بسبب نكتة او سب لرأس النظام او مجرد شك. قوافل من الجنود القتلى والمدنيين في حركات الشمال مع الأكراد في السبعينيات. وقوافل اكبر طيلة 8 سنوات في الحرب مع ايران تخللتها قوافل الجثث المغيبة في انفال الاكراد و(انفال) الجنوب. وقوافل في حرب الكويت 91 وما تلاها من قوافل غرقى البحار والمحيطات من اللاجئين العراقيين، وقوافل موتى حصار التسعينات، وقوافل معارك (ام المعارك) في 2003، والقوافل الكارثية بعد ذلك التاريخ ابتداءا بضحايا العمليات الارهابية مرورا بالحرب الطائفية ثم معارك التحرر من داعش ومرورا بقوافل تشرين 2019، وصولا الى قوافل جنائز كوفيد 19. هكذا العراق ينزف بشرا واموالا وأمنا وتنمية منذ اكثر من ستة عقود من دون توقف.
بيئة ملوثة، وهدر لكرامة الانسان. طبقة سياسية فاسدة، وميزانية فارغة، وبنية صحية خاوية. تعليم متدني وخدمات فاشلة تأتي الكهرباء في مقدمتها .. مدن متشابهة في الفقر والخراب، ومجتمع يفتك به المرض. كل هذا والعراق يسجل أعلى درجة حرارة في العالم !!! نعم اعلى درجة حرارة في العالم.
حتما هناك خطأ فضيع ما. وإلاّ لايعقل ان اكثر من 60 عاما من ذلك الدمار جاءت بالصدفة هكذا لا يستقيم امر العراق إلا اذا اكتشف ابناؤه المصدر الحقيقي لهذا الخطأ وعالجوه ، وهذه هي مهمة ينبغي ان تتعاون بها الاجيال التي تعيش على هذا التراب الذي يسمى العراق.
والواقع إن هذا التعاون لاينجح ما لم يكن مشفوعاً بأفكار جديدة لنخب فكرية جريئة. فمن الممكن لجيل الشباب أن يثور على هذا الواقع وذلك الخراب الذي يعانيه المجتمع، لكنه بحاجة الى من يحدد له أي من العلائق وأي من المنظومات وأي من السلطات كانت هي السبب في كل ذلك، ومثل هذا التحديد ، كمسؤلية أخلاقية وعلمية، وحتى وطنية، يقع على عاتق النخب الفكرية والثقافية بتنوعاتها الأكاديمية وغير الأكاديمية.
في الواقع، يختلف تشخيص الخطأ أو الخلل في العراق بين عامة المجتمع المتهِمة لذاتها أو تلك التي تفسرالأمر وفق نظرية المؤامرة الخارجية، وقلة قليلة من النخبة الفكرية والثقافية التي ترى عكس ذلك. فنتيجة لكل ما مر به المجتمع العراقي من أزمات وإحباطات برزاتجاه شعبي ذو طابع شفاهي تلقيني يرتكز على جلد الذات: (نحن السبب في كل ذلك، نحن نستحق ما يجري لنا)، حتى يبدو كأنه نتاج لنوع من التواطؤ التاريخي بين كل من السلطة الدينية والسلطة السياسية. هكذا تم فهم الوعظ الديني، أوهكذا تم إفهام الأحاديث النبوية للعامة. ويأتي حديث (كيفما تكونوا يُوَلى عليكم) في هذا الإطار أيضا. فبدلا من أن يوجه هذا الحديث علميا، ظل يوجه توجيها سلفيا يوضع فيه العمل السيء وعقوبته التي هي من جنس العمل قبل أي تفسير آخر، في حين إن تفسيره المنطقي هو إن النظام السياسي انعكاس للنظام الاجتماعي، فإذا كان الأخير نظاما تعدديا متسامحا، كان الأول من جنسه، والعكس صحيح. وهناك الكثير من هذه الأمثلة مما لايتسع المقام لذكره هنا.
مثل هذه الارتباطات القيمية بين السلطة السياسية والسلطة الدينية وتأثيرها على العامة، فضلا عن ارتباطات السلطة القبلية التي أقل ما يقال عنها إنها (سلطة ما قبل الدولة) ، زرعت عند الأفراد والجماعات قيماً تنتهي بهم الى (اللافعل) أوالأداء السلبي إزاء أهم فضاء للعمل (فضاء الاجتماع السياسي) الذي هو في الواقع الفضاء الحقوقي الذي يجد فيه الأفراد والجماعات شخصياتهم وتعبيرهم عن إراداتهم الحرة. ولسنين طويلة لم يستطع العراقيون (باستثناءآت قليلة) القيام بأي فعل ايجابي في الإطار السياسي إلا من خلال التوجيه الديني أو القبلي. وهكذا استطاعت السلطة السياسية في العراق أن تموضع نفسها في ثلاثة اشكال: (عسكرية إنقلابية، وقبلية رعوية، ودينية ولائية)، فيما لم تنجح (المدنية) التي مثلها النظام الملكي لأنها لم تسند لامن السلطة الدينية ولا من السلطة القبلية. وبذلك عاش العراق في ظل تلك الأنماط الثلاثة التي تحكمت به ولم تسمح لأفراده بالتعبير عن أنفسهم بحرية، كما إن الأفراد الذين تشربوا بهذه القيم من جانبهم، لم يجرأوا على اختراقها، فكان ما مر به العراق طيلة العقود الماضية أمراً طبيعيا مع تلك الحالة.