صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

جاسم حسين.. الاغتيال المعنوي

 

     ليسَ لك أن تكون أنت، الأغلالُ صلدة، والحبالُ مربوطة بشدة حول عقلك، روحك، عنقك. أينما يممتَ وجهك، تشدكُ سلاسلُ الجند إليهم، وهم على الخيل الموسومة، ملثمين بالوثوقية العمياء، لا يريدون لأحدٍ أن يكون خارج الإرادة الجاثمة على حيوات الناس.

      هذه الرغبة في الاستحواذ، الاستعباد، أن يكون الجميع داخل الغيتو، كي يصيروا صفاً واحداً، ضد الغيتو المقابل. إنه زمن الصناديق الموصدة على سكانها. الصناديق التي يتكدس فيها البشر بآلية، طوعاً وكرهاً؛ كيف لا، ولا صوت يعلو فوق صوت الرأي الواحد، الذي لا يجوز أن يخرقه أحدٌ، أو يناقشه أحدٌ، وليس لك إلا التسبيح سمعاً وطاعة!

      هو كما أسماه نيتشه زمن الانحطاط الشامل“. زمنٌ بات فيه الضعفاء يسيطرون على الأقوياء. الفاقدون الحكمة يحكمون على العرفاء، والنبلُ مرميٌ على قارعة الطريق، ممزقةٌ أسماله، بعد أن ارتدى الجميع ثوب الذئب، ورفعوا أقمصة يوسف عالية، عليها من الدماء محيط، ومن الثقوبِ عدد منازلِ النمل.

      البارحة، شعرتُ بكثير من الأسى، الوجع، مرارةٌ لم تراودني منذ زمن. لأقُل، كان مزيجاً من الاستياء والقرف!

  

    أمرٌ يبعث على الألم ما يحدث يومياً في وسائل التواصل الاجتماعي، والقنوات الفضائية، من تراشق واتهامات لا أخلاقية، تنتهك إنسانية الفرد، وتجعله مجرد شيئلا قيمة ولا كرامة له.

 

     الخيانة، العمالة، الاسترزاق، الرجعية، الخسة، الدناءة، عدم الوطنية.. وسواها من التوصيفات السلبية التي تخنق الأرواح، باتت غيوماً تلبد السماوات في كل ثانية. لم نعد نبصر شمساً، ولا قمراً يداعب عاشقين!

   

   كنتُ أقرأ ما يكتب في تويتروفيسبوكمن عبارات انهمرت كحمم بركان استيقظ فجأة من سباتٍ سرمدي، ليقذف ما في جوفه من شرر، أصابت من حولها، لا لشيء إلا أن أحدهم تجرأ وطرح رأياً، فكرة، وجهة نظر، وقال ما يعتقد أنه صواب. فيما حراسُ الهيكل، يرفضون أن تكون الكلمة إلا لهم.

 

     د.جاسم حسين، النائب السابق في مجلس النواب البحريني عن جمعية الوفاقالتي أصدرت محكمة التمييز البحرينية قراراً نهائياً بحلها العام 2018، هذا النائب شارك في قناة  I24NEWSالإسرائيلية، مبدياً وجهة نظر حول العلاقات الدبلوماسية بين البحرين وإسرائيل.

   

   حسين، وما أن انتشر فيديو مشاركته، حتى دشن ناشطون في وسائل التواصل الاجتماعي حملة مناوئة له، دعوا فيها إلى إلغاء متابعته، ومقاطعته، واتهموه بـالخيانة“.

  

    موقع البحرين اليومالمعارض، نشر مادة عن النائب حسين، عنونها بـمن المعارضة إلى مستنقع الخيانة: جاسم حسين يظهر في قناة I24 الإسرائيلية مدافعا عن التطبيع“.

 

     المخالفون للدكتور جاسم حسين، كان في وسعهم أن يفندوا بشكل علمي وجهة النظر التي قدمها، وأن يبينوا رأيهم، دون الحاجة لاستخدام سلاح التسقيط والتشهير الاجتماعي، وتوزيع التهم الاعتباطية، وتأجيج مشاعر الشارع العام، التي هي بالأساس في حالة استنفار دائم، وليست في حاجة لمن ينثر على جراحها مزيداً من الملح، لتلتهب مجدداً.

      من جهتها، جمعية الوفاق، نشرت في 14 سبتمبر الجاري، تغريدة على حسابها في منصة تويتر، جاء فيها بناء على مشاركة عضو الجمعية الدكتور جاسم حسين في قناة صهيونية، قررت الوفاق وفقا للنظام الأساسي واللوائح الداخليةإسقاط عضويته“.

      خطوة الوفاقهذه متوقعة، وإذا تم قراءتها بعقل هادئ محايد، هي اجراء طبيعي، تجاه شخصية خالفت ما تعتبره الجمعية أنظمة داخلية، ولذا، كان جزاء هذا الفعل، الفصل.

      إجراء الوفاق، بقدرِ ما جاء منسجماً مع لوائحها الداخلية، وخطابها السياسي العام، إلا أنه من جهة أخرى ينبئ عن الانسداد السياسي الذي تعاني منه، وهي حال التكلسالتي ليس المجال لنقاشها الآن، وتحتاج لمقالٍ مستقل.

      الاغتيال المعنوي الذي طال د.جاسم حسين، دفعه لاحقاً لنشر توضيح مقتضب، تلاه بثُ فيديو مختصر، يقدم فيه اعتذاره للشعبين البحريني والفلسطيني، ويؤكد أنه ضد التطبيعومع حق الشعب الفلسطيني في مجابهة الاحتلال.

      قد يكون النائب السابق جاسم حسين مصيباً في رأيه، وقد يكون مخطئاً، هذا حقه الطبيعي، الذي كفلته الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وأيضاً أقره الدستور البحريني، والذي يجب أن يكون هو المرجعية الأساس التي يحتكم لها المواطنون.

      من حق أي فرد أن يؤيد إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، ومن حق أي فرد أيضاً أن يعارض ذلك. هذا حق طبيعي، أصيل، وليس لأي مثقف أو رجل دين أو حزب أو حكومة أو سلطة، أن تجبر الناس على تبني وجهات نظر لا يؤمنون بها، لأن الإكراه في الرأي، تعسف، وانتهاك لحق أساسي من حقوق الإنسان، التي يجب أن تصان وتحترم، ويعلى من شأنها.

      الازدواجية التي تظهر علانية في ما حصل مع د.جاسم حسين، أن رهطاً من الذين شنوا الحملة ضده، ومارسوا القمع لرأيه، هم ذاتهم من يطالبون بأن لا تقمع وجهات نظرهم، وهم من مارسوا دهراً طويلاً المحاججة في مطالبتهم باحترام حقوق الإنسان. إلا أنهم الآن يقترفون عكس ما ينادون به، تحت شعارات وذرائع عدة، والمحلصة: ممارسة الإستبداد وتكريس أحادية الرأي ومنع الحق في الاختلاف!

      ما يغفلهُ كثرٌ أن تأييد قرار دولة بإقامة علاقات دبلوماسية مع تل أبيب، لا يعني أبداً إسقاط الحق التاريخي للشعب الفلسطيني بإقامة دولة مستقلة، عاصمتها القدس، وعودة اللآجئين، وإلغاء كافة أشكال التمييز العنصري التي تطال الفلسطينيين، وفق مقررات الأمم المتحدة، والمبادرة العربية للسلام؛ وهي المرجعيات القانونية التي يحتكم لها المجتمع الدولي.

      الحق التاريخي في مقاومة الاحتلال؛ في ذات الوقت، لا يعطي أحداً حقاً مقابلاً في الشتيمة والتخوين ونصب المشانق لكل من أبدى وجهة نظر مغايرة، وإلغاء كل التاريخ الوطني لشخصيات تروم خدمة أوطانها وشعوبها، وتريد بناء دولٍ مدنية حديثة، بعيداً عن الطائفية والعنف والكراهية، يسودها القانون العادل، ويكون الجميع فيها سواسية، لا فضل لأحد على آخر.

      جاسم حسين؛ أقول لك، ما قال محمود درويش، الذي هو بشرٌ لا قداسة لكلامه، إلا أنه يؤنسني شِعره: “لا تعتذر عما فعلت، وتذكر صوت ماجدة الرومي وهي تغني درويش: فأنتَ الآن حرٌ، وحرٌ، وحرٌ.

      الحرُ من يقول كلمته براحة ضمير، يمارس حقه الطبيعي في إبداء الرأي بشجاعة، حقه في الصواب والخطأ، حقه في النهوض والسقوط، حقه في القوة والضعف، حقه في التماثلِ والاختلاف، وحقه في اختيار أي أرضٍ يقف عليها وأي سماء يرمقها ببصره. باختصار، هو الحق في أن يكون الواحدُ مِنا بشرياً في صفاته، حياته، أحلامه، مخاوفه، دون ادعاءات ملائكية، ولا نوازع شيطانية.

      هي حريتك، لا تُسلِمها لأحدٍ قدر المستطاع، لأن الحرية أغلى ما نملك، والرأي الحر الصادق الحصيف هو ما يبني الأوطان، لا تملقُ المتزلفينَ على الموائد الدسمة، ولا صراخُ المحبطين في الصحاري القاحلة.

      لذا، كُن أنتَ، وأعرضِ عن لغو الحديث، ولَكَ إن شئت أن تعمل بقول خليل مطران، الذي ذكرني به صديق أثق بحكمته: “بعضُ السكوتِ يفوقُ كل بلاغةٍ، في أنفسِ الفهمين والأرباءِ.. ومن التناهِي في الفصاحةِ تركُها، والوقتُ وقتُ الخطبةِ الخرساء

      هو وقت العملِ بجدٍ وإخلاصٍ وعقلٍ متقدٍ، دون مزيدِ ثرثرة، وأن يكون الهدفُ رفعةَ الإنسانِ وحفظُ كرامتهِ وأمنهِ وتقدمهِ، والدفع بالتجاربِ البشريةِ نحو آفاقٍ لا حدودَ لها.

        

       

 

      كاتب وباحث من السعودية

      تويتر: Halmustafa

أقرأ أيضا