أثارت قضية لف نعش الرئيس الراحل جلال الطلباني بالعلم الكوردستاني دون العلم العراقي، الكثير من الجدل داخل العراق وخارجه، في هذا الظرف المتفجر من العلاقة بين بغداد وأربيل.
حاولت بعض قيادات الاتحاد الوطني الكردستاني تمرير «الحادث» على انه خطأ بروتوكولي لا أكثر، في المقابل ارتفعت أصوات محتجة في بغداد ترى فيه عنفا رمزيا بحق الهوية الجمعية والوطنية العراقية. بطبيعة الحال، فان الأجواء المتأزمة بين الاقليم والدولة الاتحادية تغذي السيناريوهات الاكثر ميكافيلية، ومنها: أن الرحلة الأخيرة للرئيس العراقي السابق قد تم اختزاله بهويته الاثنية حصرا، وفق رغبة من رئاسة الاقليم.
آخرون يعتقدون بأن حادثة العلم لم تكن بمعزل عن امتعاض مدينة السليمانية التي رأت في محطة بغداد “القسرية” تطبيقا للحصار أكثر منه الدفاع عن البعد السيادي لمراسيم التشييع. علينا أن لا ننسى كذلك التدافع السياسي والانتخابي في الاقليم نفسه، ورغبة الاتحاد الوطني الكردستاني بالهيمنة من جديد ليس فقط على الفضاء العسكري والامني، بل على التمثيل السياسي لمنطقة سوران برمتها أيضا (وتشمل السليمانية وحلبجة وما حولهما).
تقول بعض المصادر المطلعة بان عائلة الرئيس جلال الطلباني كانت راغبة بتنظيم الدولة الاتحادية تشييعا رسميا، تتم فيه دعوة شخصيات دولية مرموقة، غير أن بغداد أظهرت الكثير من التردد، وفي هذا الصدد ربما نكون أمام انقسام داخل عائلة الرئيس ذاتها التي أرسلت إشارات متضاربة باتجاه حزبهم والاقليم والعراق برمته.
الحادثة هذه (جثمان الرئيس الراحل واختيار العلم) اعادتنا لاشكالية معرفية توقفت عندها العلوم الاجتماعية منذ اكثر من قرن. ففي العصور الوسطى كان للملوك والاباطرة، (ورؤساء الدول بمنطق اليوم)، جسدان: الاول زائل (الجثمان)، يمثل الانسان الدنيوي غير المعصوم، أما الجسد الثاني فيمثل الدولة، إن كان بردائه المقدس بالأمس أو السيادي اليوم، وبالتالي هو باق سياسيا كرمز. من هنا صرخة رجالات البلاط لحظة سماع موت الملك (مات الملك.. يحيى الملك!). تُفهم الصرخة الأولى لتوديع الملك الدنيوي، والثانية لتخليد الملكية – الدولة العابرة لجثمان راعيها.
توارثنا، في الجمهوريات الحديثة، مفهوم الجسدين، ونتج عنها مراسيم دفن محددة ومقننة، دون أن تلغي الحيز الشخصي للفقيد ووصاياه الخاصة ورغبات عائلته، كل ذلك مع الابقاء على البعد السيادي للدولة. مثلا، لا احد عارض وصية الجنرال ديغول بأن يدفن في مدينته وقرب عائلته، وذات الشيء بالنسبة للرئيس فرانسوا ميتران. ولكن لم يكن من حق العائلة إلغاء البعد السيادي لمراسيم الدولة والامة الفرنسية.
للاسف، ألحق حيف بذكرى الرئيس الطالباني، أحد رموز كردستان على مدى نصف قرن، والسياسي العراقي الكبير ورئيس جمهورية العراق على مدى ثماني سنوات، ونائب رئيس الاشتراكية الدولية، الخ. يبدو اننا في العراق لم نرتق بعد لمصاف الاحتفاظ برموزنا وسردياتنا الايجابية، دع عنكم البناء عليها.
د. هشام داود: باحث في الانثروبولوجيا السياسية بالمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي في باريس.