جغرافيا التوراة والجوهر الإبادي التوراتي للحركة الصهيونية في ضوء مقابلة مع الباحث أحمد الدبش: بهدف إغناء ثقافتنا “الآثارية والأنثروبولوجية” الفقيرة وخصوصا في ميدان تاريخ الحضارات والأديان وعلم الآثار، من المفيد متابعة الجديد في هذه العلوم على ألسنة الباحثين والخبراء المتخصصين وذوي التوجهات الشعبية الذين لا يحتكرون المعرفة ولا يتصرفون بتكتم وعنجهية الكهان والسحرة في العصور القديمة. وفي هذا السياق التعريفي والتثقيفي، أدرج أدناه بعض رؤوس الأقلام مما ورد في حديث الصديق الباحث أحمد الدبش، مسجلا اتفاقي معه على ضرورة أن يخرج الكُتاب والباحثون والإعلاميون المتخصصون العرب في تلك العلوم من قبضة الرواية التوراتية التقليدية وينتهجون منهجيات علمية صارمة في مقاربة الحقيقة وكتابة تأريخ فلسطين وعموم العالم العربي مع توخي الحذر والحيطة واعتماد اللغة الاحتمالية مرنة وعدم التسرع في إطلاق الأحكام الباتة والنهائية إذْ أنَّ العلوم التأريخية التي نحن بصددها لا تقبل الإطلاق والقطع والبتر لأنها بطبيعتها نسبية وخطاب البحث العلمي يختلف عن الخطاب والبيان السياسي الحماسي.
بدايةً، أود الإشارة إلى اتفاقي الكامل مع الباحث الدبش على تركيزه على الجوهر الديني الخرافي للمشروع الصهيوني الإبادي المعاصر منذ بداياته وكونه في الأساس مشروع بروتستانتي كالفيني. فهذا المحور من الموضوع يهمله الكثيرون من الساسة والباحثون والقراء العرب، بل ويبدو أن بعضهم لا يريد أن يصدق بوجوده ويستوعبه رغم كثرة الأدلة عليه لأنه قد يؤدي به إلى الخروج على السردية الغربية المنافقة التي تساند المشروع الصهيوني والتحالف بين هذا المشروع والدول التي قامت على مبدأ الإبادة التوراتية كما هي الحال في الولايات المتحدة الأميركية التي قامت على جثث شعوب السكان الأصليين الاميركيين.
وثانيا، أسجل تحفظي على الشطب الكامل الذي قال به الباحث على مطلق الوجود اليهودي، العبري، الإسرائيلي (مع أخذ الفروق الجوهرية بين هذه الكلمات بنظر الاعتبار) في المملكتين يهوذا وإسرائيل الغابرتين في منطقة تلال وسط فلسطين. حيث تتوفر لدينا أربعة أدلة رافدانية آثارية ملموسة من العهدين الآشوري والكلداني، وسأتناولها بالتحليل النقدي تفصيلا في مناسبة أخرى. وأكتفي هنا بذكر عناوينها: “1-المسلة السوداء أو مسلة شلمنصر الثالث (858 -824 ق.م)، وفيها يظهر ساجدا ملك إسرائيل ياهو من بيت عمري وهو يقدم الجزية للملك الآشوري مع ملوك آخرين. 2-نقش مسماري باللغة الأكدية “البابلية” ورد فيه ذكر ياهو ياقين ملك يهوذا الأسير. 3-سجلات حملة سرجون الثاني الآشوري لأعداد أسرى السبي البابلي. 4- نصب كورخ “قرقرة” من عهد شلمنصر الثالث من سنة 853 ق.م، وفيه يرد ذكر ملك إسرائيل أخاب وجيشه ضمن جيوش التحالف الآرامي والعربي الذي قاده ملك دمشق حزائيل الآرامي.
وأتحفظ ثانياً، على شطبه المطلق على كل الرواية التوراتية وتحديدا على تلك التفاصيل القليلة فيها والتي تتطابق مع الأدلة الإركيولوجيا الرافدانية والمصرية وبلاد آرام “الشام” وخصوصا في الأمثلة الرافدانية الأربعة سالفة الذكر، ولكن هذا التطابق لا ينقذ الرواية التوراتية من خرافيتها بل يؤكد بالأدلة الآثارية المذكورة بعض تفاصيلها.
أتحفظ ثالثا على ما ذكره الباحث بخصوص “نفي شتاينر لوجود أورشليم القدس قبل القرن التاسع ق.م”. فالحقيقة هي أنَّ شتاينر لم تنفِ وجود أورشليم في هذا القرن بالمطلق “على طريقتنا العربية”، بل وضعت احتمالين لتفسير ورود اسم مدينة أورسليم في رسائل تل العمارنة وهذا يعني أنها تعطي مصداقية لما ورد في تلك الرسائل وتحاول تفسير ما ورد فيها بخصوص أورشليم القدس، فتقول: الاحتمال الأول أن اسم (ءوروساليم) الوارد في الرسائل ربما يعود على مدينة أخرى اسمها (ءوروساليم) يمكن العثور عليها (ولم تقل تم العثور عليها) في القسم الجنوبي من منطقة التلال. والاحتمال الثاني هو أن الاسم يعود فعلا على أورشليم “القدس” نفسها، ولكنها كانت بلدة صغيرة وغير مسورة بل كانت مجرد عزبة خاصة وأراضي خاضعة لسلطة ملكية. ص 68 من كتاب شتاينر “القدس في العصر الحديدي”.
وبخصوص اسم “أورشليم” أيضا، فهو لم يرد فقط في رسائل تل العمارنة بل ورد أيضا بألفاظ متقاربة في الأماكن واللغات التالية:
أورشليم- آثار من مملكة إيبلا.
أورسالم- في ألواح أكدية من العراق القديم.
يوروشاليم- في نصوص الطهارة من مصر.
أوشاميم، في نصوص اللعن – من مصر.
أوشاليم – في مصر.
أورساليمو- في نص أموري.
شهر شلايم – في ألواح أوغاريت.
المصدر: تاريخ القدس القديم – لخزعل الماجدي ص 93 وص 72
*أدناه جردة سريعة ببعض المواضيع التي بدت لي أكثر أهمية في المقابلة مع الباحث أحمد الدبش:
1-عن إمبراطورية داود وابنه سليمان الذي بنى الهيكل الأول وعنه يقول النص التوراتي إن مساحته 320 متر مربع (وهي مساحة شقة متوسطة وأصغر من مساحة فيلا كبيرة) وشارك في بنائه 176 ألف عامل واستغرق العمل سبع سنوات، وجيء له بخشب من أشجار الأرز من لبنان…إلخ!
2-هل هناك تقاطع (بمعنى تلاقي وتوافق، وليس كما يفهمها بعض العراقيين بمعنى المقاطعة وعدم الاتفاق) بين النص القرآني والتوراتي؟ لماذا يجب إحداث قطيعة بين الرواية القرآنية التي تنزه الأنبياء والتي تهينهم؟ هل هناك جغرافيا للرواية التوراتية في القرآن؟ هل هناك تزمين وراتي في القرآن؟
3-هل صحيح أن أقدم نسخة من التوراة باللغة العبرية كتبت في العاشر الميلادي وموجودة في كنيسة سان بطرسبورغ؟
4-ما قصة الترجمة السبعينية باللغة المصرية المحكية في القرن الثالث ق.م بطلب من الملك بطليموس الأول؟ وهل من المنطقي أن تتم مراجعة الترجمة السبعينية بالرجوع إلى نسخة عبرية كتبت بعدها بثلاثة عشر قرنا لأن النسخة العبرية الأصلية التي ترجمت في القرن الثالث ق.م فقدت؟ أليس من المنطقي أن تقارن وتراجع الترجمة بالنسخة الأقدم منها وليس التي بعدها؟
5-كيف تم توحيد الرواية التوراتية مع الرواية الإنجيلية المسيحية في عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين وأمه هيلين أول حاجة في المسيحية؟
6-يرى الباحث الدبش ضرورة إحداث قطيعة بين النص القرآني والنص التوراتي لأن النص القرآني يخلو تماما من التحديدات الجغرافية وهو لم يذكر فلسطين ويخلو من التزمينات والتواريخ ولم يحدد السنوات التي حكم او ولد فيها إبراهيم أو موسى أو داود أو سليمان وغيرهم من انبياء التوراة. والقرآن نزَّه الأنبياء وذكر محاسنهم أما التوراة فأظهرت إبراهيم “…” أنكر أن تكون المرأة التي معه زوجته وقال إنها أخته وحصل بسببها على ماشية واموال وأصبح غنيا بسببها…إلخ، وأغلب الأنبياء تظهرهم التوراة كملوك قساة وقتلة دمويين وسليمان خاصة أظهرته التوراة كزير نساء عبد إله النساء ولم يعبد رب إسرائيل. أما في القرآن فهم أنبياء منزهون وذوو صفات حميدة. من هنا لا يوجد تقاطع بين النص التوراتي والنص القرآني ولذلك ينبغي إحداث قطيعة بينهما لأنهما مختلفان.
7-يشرح الباحث منهجية القس الأميركي إدوارد روبنصون التلفيقية التي استعملها سنة 1834 حين أراد أن يقوم برحلة تشابه او على خطى رحلة موسى من مصر إلى فلسطين الواردة في التوراة، وقام برحلة من سيناء إلى فلسطين ومعه شخص يجيد اللغة العربية هو إيلي سمث، ولم يكن معه أي دليل أثري، وراح يطابق بين الأسماء الواردة في التوراة والأسماء القريبة لفظا من تلك التي مر بها. مثلا مر بقرية تسمى جبع فقال هذه جبعون التوراتية، وبيسان أصبحت بيت شان التوراتية …إلخ. ويقول الدبش: “نحن الذين كتبنا وألفنا الكتب عن يمنية التوراة وأنا منهم استعملنا منهجية التوراتي روبنصون أي المقاربات اللغوية ولكن على أرض اليمن”. ثم يسجل أنه هو شخصيا استعمل كتاب لعالم الآثار اليمني مطهر الإرياني حول الآثار المسندية وراح يطابق بين الأسماء اليمنية الوارد فيه والأسماء الواردة في التوراة من دون مراعاة التزامن التأريخي وقال: “وأنا كنت أعلم أن النقش الأثري اليمني المسندي لا يتزامن مع الحدث التوراتي”.
8-ما علاقة ظهور البروتستانتية على يد الألماني مارتن لوثر بالجمع بين المسيحية واليهودية منذ كتابه الأول الذي يحمل عنوان ” المسيح ولد يهوديا” ودعا إلى عودة اليهود إلى فلسطين؟
*الصورة: واحدة من أقدم النسخ للتوراة تعود إلى القرن العاشر الميلادي أما الترجمة السبعينية باللغة اليونانية للتوراة والتي تعود إلى القرن الثالث ق.م أي قبل هذه النسخة بثلاثة عشر قرنا فلا وجود لها بل توجد مقتبسات متفرقة منها، كما لا توجد النسخة العبرية التي قيل إنَّ المترجمين ترجموا عنها السبعينية إلى اليونانية.
*انقر هنا لمشاهدة المقابلة مع الباحث الفلسطيني أحمد الدبش: