كُنت قبل مدة من الزمن كتبت عن الكذب، ووضعت في محور المنشور سؤالاً، وهو هل الكذب مذموم لذاته، أي لأنه كذب؟ وهل الصدق ممدوح لذاته، أي لأنه صدق؟، وفكرت في نفسي أن أكتب عن (جماليات الكذب)، وإذا بي أجد غيري قد كتب عن هذا الموضوع الذي اعتقد أنه موضوع اكتشفت أهمية الكتابة عنه، وفي مقدمة من كتبوا المفكر السعودي عبدالله الغذامي مقال بعنوان:”جماليات الكذب” فخربوا عليَ جمال الكشف، ولكنهم لم يخربوا علي متعة الكتابة في هكذا موضوع.
حدثنا الغذامي عن حكايات بعض الكذابين في التراث التي تمنحنا التلذذ في سماعها من فرط قدرة صاحبها على بناء سرد يُظهره على أنه حدث واقعي، ويُحاول اقناعك بقوله، وهو يُجيد سرد الحدث وكأنه عاشه فعلاً، ويعدها (الغذامي) مما أسماه “تكاذيب” وهي تدخل في “المخيال الشعبي”، وهي من نتاج الأدب الظريف، أو أدب الظرفاء، وقد أجاد الجاحظ في الكتابة عنه في كتابه “البخلاء”، وما كُتب عن “الشطار والعيارين” وغيرهم.
ولا يدافع (الغذامي) عن الكذب، مستشهداً بقول النبي (ص) “لعن الله الكاذب ولو كان مادحاً”، وهو قول صريح في لعنة الكذاب إسلامياً.
سؤال ماذا سنقول إن كان الكذاب ليس مادحاً، بل مُخلصاً لأحد المعارضين للسلطة المستبدة؟، كأن يكون لهذا المعارض عيوناً للسلطة تتبعه، فيحاول أحدهم التمويه عليهم ولو دخل داره،، فهل يُعد كذباً مثل هذا مكروهاً؟!.
قيل قديماً “أعذب الشعر أكذبه”، فقد يكون في جماليات الشعر خروج عن مقدار التحقق عن معانيها في الواقع، لتبدو لنا وكأنها نوع من أنواع الكذب، ولكنها قد تحمل بين ثناياها مقاصد عدة، منها محاولة كسب الشاعر المكانة التي يعتقد أنه يستحقها في دواوين السلاطين التي كانت هي ساحة المنافسة والمبارزة فيما بين الشعراء، وقد يصح الأمر على كثير من الفقهاء والعلماء والفلاسفة الذين مدحوا سلطاناً ما لا لأنهم مقتنعون بحكمته وبأحقيته في الجلوس على عرش السلطة، ولكن بعضها من نوع وجوب طاعة أولي الأمر، وبعضها من نوع السعي لنيل المجد الذي يناله كل عالم أو شاعر أو فقيه صار قريباً من السلطة، حتى وإن طالته فيما بعد يد السلطة في الاقصاء أو الابعاد، ولكنه نال الشهرة.
كل غلو في رفع شأن يحمل بين طياته تأكيداً لأهمية الكذب وجعله أداة للتصديق على قاعدة (غوبلز) “كذب، ثم كذب حتى يُصدقك الناس“.
وكم اختلف بعض الأصدقاء حول قضية شاركوا في صناعتها كذباً، فطالب بعضهم بعضاً في الاحتكام للكذبة التي صنعوها من قبل!، وهذا يُذكرنا بقصة الحمار الذي دفنه صديقان وأدعوا أنهم مقام لولي، وبعد أن تخاصموا طلب أحدهم الحلف بهذا المقام، فأجابه صديقه “مو دافنينه سوه“.
لك في صناعة الرواية ما يصنعه الراوي من بناء سردي مُتخيل، وهو في عداد “الأكاذيب” إن حاكمناه بروح العلم لا بروح الأدب التي تقبل المبالغة التي تُخرج المعنى من دلالة “المطابقة” لتجعله أكثر متعة في تقريبه من منطقة التأويل التي تكشف لك عن تعددية المعنى الذي يجعل النص أكثر ابهاراً ومتعة.
هل هناك قيمة في قول الحق إن كان يؤذي آخرين من أمثال من ذكرتهم من المعارضين لسلطة غاشمة تريد رميمهم في أوار الحرب الغاشمة مثلاً؟، فأن تحمي هارباً من حرب ليست عادلة، ومن اختار الحرب حاكم ظالم، فهل هذا يعني أنك لا تُجير هارباً منها؟ لمجرد أنك لا تُريد أن تكذب لأن الكذب مذموم لذاته؟.
ومن قال أن الحق الذي تراه أنت أو السلطة التي تندمج في الدفاع هو الحق الذي يراه المعارض أو المُخالف؟، فقد يكون الحق الذي عندك هو كذب وتكذيب لكل متبنياتك المعرفية والإنسانية، وهنا أنت في انصياعك لفعل الحق أو الصدق الذي تدعي السلطة السياسية أو المجتمعية إمتلاكه، قد تكون خالفت به ضميرك الأخلاقي الذي لم يُنبيك أن ما تمارسه في حماية هكذا شخص في ما تعتقده السلطة أنه كذب، وهنا ستحضر جدلية الكذب والصدق بين السلطة وتباين النظر له عند المعارضين الذين قد تتفق معهم أنت في الرؤية على أن هذه السلطة ظالمة، وفي هكذا مضمار للصراع بين الصدق والكذب تضيع الحقيقة فيه.
الكذب والصدق ليسا حقيقتين منطقتيين في الحياة المجتمعية، وقد يكونا حقيقتين في الحسابات الرياضية، ولا أظن تخليص بشر من شر قتلة في الكذب عن الإخبار عن مكانه يُعد كذباً مذموماً لذاته، بقدر ما يُعدَ كذباً ممدوحاً لأجل القصد والغاية من ورائه.
إنها بعض من جماليات الكذب الذي لا أدافع عنه من دون وجود تبريرات أخلاقية وعقلانية تجعله مقبول عقلياً وجمالياً.