حرب الـ«هههه»: الدراسات العلمية في مواجهة الهراء التواصلي! (1-2)

عشائر الفيسبوك والعلوم الحديثة

إذا كانت مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات البث الرقمي كالفيسبوك وأكس واليوتيوب وغيرها قد حولت حرية التعبير ودمقرطة الكتابة والنشر إلى حقيقة مجسدة، فإن القمع والتقييد الخوارزمياتي من قبل إدارات هذه المنصات الغربية وذات الميول المعادية لشعوب الجنوب والعالم الثالث والمحابية للكيان الصــهــيــوني والدول الغربية حقيقة أخرى لا يمكن تجاهلها!

من مضاعفات هذه “النعمة” الإعلامية والثقافية إنها تحولت في بعض جوانبها بمرور الوقت إلى نقمة في ميدان البحث العلمي حيث ازدحمت ميادين علوم الاجتماع بكافة فروعه والآثار وفقه اللغة وتاريخ الأديان والحضارات بالآلاف من المتطفلين والساعين إلى شهرة رخيصة بأي ثمن أو تمرير أجندات سياسية عنصرية وطائفية وعبثية مختلفة!

ثمة حرب طاحنة تدور رحاها هذه الأيام بين “جيوش” من المدونين الذين ليس لغالبيتهم الساحقة أي حصيلة علمية أو دراسية أو تطبيقية أو لغوية في هذه العلوم. وفي أحسن الأحوال يتكئ بعضهم على ما قرأه من كتب قليلة في ميدان ما، او على مؤلفات وأحاديث قريبه عائلياً أو صديقه أو مجرد فيديوات لشخص برز في الإعلام التواصلي في هذه المجالات فأعجب به.

في هذه الحرب الضارية يكون الخاسر الأكبر هو المتلقي المخلص والسوية العلمية الدقيقة التي ضُربت وتُضرَب في الصميم وتحولت بعض شخصيات الفيسبوك واليوتيب إلى نجوم تؤازرهم عشائرهم التواصلية وتكاد تجعل منهم أشباه أنبياء أو ملائكة وعباقرة معصومين ضد عشائر فيسبوكية أخرى تعارضهم وتسخر منهم بابتذال من دون حجة علمية أو دليل ملموس أو سبب وجيه.

جرِّب أن تطلع على تعليقات المتابعين بين مؤيدين يضعون علامات الإعجاب والتأييد والتضامن ورافضين وساخرين يضعون علامة السخرية والضحك والاستغراب (وواو) وعبارات من قبيل (ههههه) فلن تجد رأيا حصيفا علميا أو شبه علمي إلا ما ندر.

أحمد داود يعرب السومريين

ومن الآثار الجانبية لظاهرة انتشار المواقع التواصلية هو سهولة الحصول على نسخ من الكتب في شتى الاختصاصات حيث أصبح بالإمكان الاطلاع على كتب بعض المؤلفين بنسخ رقمية “بي دي أف” ممن يعتمدون المناهج العلمية الدقيقة إلى جانب أضدادهم ممن يعتمدون الكتابة الانشائية البلاغية الفارغة من أي مضامين ومنهجية علمية رصينة فترى مؤلفاً يكتب مثلا بكل جرأة أن السومريين – الذين يسود شبه إجماع بين العلماء على أنهم ليسوا من الشعوب السامية “الجزيرية” -عرب/ كما يقول الكاتب السوري أحمد داود! والطريف أنه – لتأكيد عروبة السومريين – يستشهد بقاموس آرامي فيقول “بلاد سومر أو بالأصح “شومر” هو الاسم القديم الذي أطلق على جنوب العراق واسم شومرو كلمة عربية قديمة وهي في القاموس السرياني تعني المخلص، المنقذ، الشجاع وكتبت بالخط المسماري “جي أنجي” أي أرض المخلص، المنجي”. والأطرف من ذلك أنه يقتبس من كتاب “فجر الحضارة في الشرق الأدنى ص 61، للباحث الهولندي هنري فرانكفورت لتأكيد رأيه القائل بعروبة السومريين، حين تقرأ المقتبس تجد أن فرانكفورت لا يؤكد عروبة السومريين بل هو ينكر وجود شعب اسمه الشعب السومري أو الإنسان السومري، لنقرأ المقتبس:

يجب أن نعلم أن كلمة (السومرية) لا يمكن إطلاقها، إذا تكلمنا بدقة، إلا على الكتابة فقط. ولا وجود لشكل إنساني يمكن تسميته بهذا الاسم. ومنذ زمن العُبيد حتى الوقت الحاضر ظل سكان بلاد ما بين النهرين يتألفون بالدرجة الأولى من بشر ينتمون جنس البحر الأبيض المتوسط. إن القضية التي كثُر النقاش حولها، قضية نشأة السومريين، قد تكون أقرب إلى الجري وراء الخيال مما هي إلى قضية تأريخية”! وأحمد داود مثال على مجموعة من الكتاب الأيديولوجيين القوميين العرقيين بمختلف أشكالهم العروبيين والآشوريين والكلدان والفينيقيين والفراعنة أو السلفيين والطائفيين بمختلف تسمياتهم، الذين يريدون ترويج بضاعتهم السياسية والأيديولوجية على حساب العلم والمنهجية العلمية ولغة الشك والأدلة الملموسة والشك في الأدلة وهكذا، فيحول أحدهم السومريين إلى عرب عاربة حتى لو كان السومريون قد ظهروا قبل ظهور العرب كلغة وهوية بأكثر من ألفي عام!

تكريد السومريين وتتريك الحيثيين

بالعودة إلى ما ينشر في مواقع التواصل وفي خضم هذا الطوفان من الهُراء والتطفل الساذج نجد غالباً أن المعلومة الصحيحة الموثقة والتحليل الرصين العميق الحذر والمتواضع البعيد عن روحية البحث عن براءات الاختراع والاكتشافات بأي ثمن أندر من لبن العصفور. حيث تطفو الفتاوى والأحكام المتسرعة والباتة من قبيل السومريون هم الأكراد القدماء، والسومريون عرب، والأتراك هم الحيثيون القدماء، العراقيون المعاصرون هم مندائيون أو آشوريون أو سومريون “وإن لم ينتموا”، والسوريون هم السكان الأصليون لسوريا الكبرى التي تضم وادي الرافدين بقضه وقضيضه وحضاراته ودوله التي سبق ظهور كلمة سوريا بآلاف السنوات، جاهلين أو متجاهلين أن سوريا اسم مشتق من دولة رافدانية هي “الآشورية / الآسورية”  أما العرب في سوريا فيعتبرهم بعض المدونين من دعاة “القومية السورية” محتلين لا يختلفون عن الفرس أو الرومان قديما أو الأميركان والصهاينة حديثا.

وفي هذا الخِضم الباعث على الدوار بُعثت الى الحياة شعوب انقرضت وزالت هي ولغاتها كالآشوريين والكلدان والفينيقيين وأسست باسمها الأحزاب السياسية والمعاهد البحثية في مسعى للحصول على فتات من كعكعة الحكم الفاسد التابع للأجنبي!

لمقاومة هذا الطوفان أقدم محاولة متواضعة لترويج منهج البحث العلمي الذي يواصل بعض الباحثين الجادين الأخذ به فأدرج أدناه مجموعة من الفقرات اقتبستها عن دراسة لباحث متخصص وأستاذ جامعي في عدد من الجامعات العربية والأجنبية منها جامعة مونستر الألمانية هو د. محمد مرقطن. وقد اخترت هذه الفقرات رغم تحفظاتي أو عدم اتفاقي مع مضامين بعضها، لأنها تحتوي على مجموعة من الأدلة الآثارية “الأركيولوجية” والتأثيلية المهمة في خصوص وجود العرب واللغة العربية في المشرق العربي والبحث بعنوان “حول أصول مصطلح العرب والعربية” ضمن كتاب ” أعمال مؤتمر معجم الدوحة التأريخي للغة العربية” وسأعلق على بعضها وأترك التعليق على بعضها الآخر للقراء والقارئات. 

خطابان قوميان أيديولوجيان خاطئان علميا

سنضع جانبا وجهتي نظر القوميين العرب وخصومهم من أبناء الأقليات الكردية والتركية والسريانية (على اختلاف أسمائها المعاصرة كالآشورية والكلدانية) والأفريقية البربرية حول العرب في التاريخ لكونهما وجهتي نظر مغلوطتين لا تحتكمان إلى العلم بل إلى الأيديولوجيا والشعور القومي الغريزي. فالقوميون العروبيون يلجأون الى الطريقة السهلة في الشطب على جميع الشعوب القديمة بدءا من السومريين وليس انتهاء بالأنباط وتسميتهم عربا. أما خصومهم من أبناء الأقليات غير العربية والمثقفين العدميين والمتأثرين بالغرب ومعهم بعض الإسلاميين المتشددين الرافضين للخطاب القومي العروبي فيلغون العرب كهوية وشعب ولغة لفترة ما قبل الإسلام ويعتبرونهم بدوا رحلا غزوا شمال الجزيرة العربية وعبروا سيناء نحو شمال أفريقيا وانتشروا غربا وعبروا نهر دجلة واتجهوا شرقا وجنوبا حتى حدود الهند والصين فهم مجرد محتلين وغزاة. سنضع وجهاتي النظر هاتين جانبا ونقرأ معا هذه المقتبسات المهمة الكاشفة لجوهر موضوع العرب والعربية من بحث بعنوان “حول أصول مصطلح العرب والعربية” ضمن كتاب ” أعمال مؤتمر معجم الدوحة التأريخي للغة العربية” للباحث د. محمد مرقطن:

*”اهتم عدد من الباحثين بمصطلح عرب. ويظهر من خلال الدراسات العلمية أن هناك تطورا دلاليا قد حدث لهذا المصطلح عبر تاريخه الطويل من القرن التاسع ق.م (حين ظهر للمرة الأولى التي رصد دليل مادي عنها في نصب شلمانصر الثالث لمعركة قرقرا سنة 853 ق.م – ع.ل). بحيث أصبح لاحقا ذو دلالة خاصة ويطلق على مجموعة بشرية بعينها وأصبح تسمي نفسها “عرب” ابتداءً من القرن الرابع الميلادي تقريبا. ص 260″

ثم يسرد د. مرقطن مراحل تطور هذا المصطلح كالتالي:

العرب في العهد الأكدي وفي التوراة

1-يرد جذر “عرب” كثيرا في اللغة الأكدية بالكتابة المسمارية بلفظ “عريبو” (erebu). وورد مصطلح عرب لأول مرة في حوليات الملك الآشوري شلمانصر الثالث والذي حكم في الفترة من 858-823 ق.م. حيث ورد ذكر القائد جنديبو العربي الذي شارك إلى جانب جيوش وملوك بلاد الشام في معركة قرقر سنة 853 ق.م. وكان يقود جيشا مؤلفا من ألف من راكبي الجمال. ص561.

2-يستمر ظهور كلمة عربي، عرابي وعاريبي كإشارة لمجموعة أو مجموعات بشرية تقطن في وسط الجزيرة العربية وبادية الشام وتخوم بلاد الرافدين والمناطق الداخلية لبلاد الشام. ص561.

3- في العهد القديم من الكتاب المقدس “التوراة”: يرد جذر “ع. ر. ب” بمعاني منها: ضمن، دخل، غرُبَ” كما يرد العرب بمعنى البدو أو سكان الصحراء، كما يرد أنهم من سكان بادية الشام وأجزاء أخرى من فلسطين وشمال الجزيرة. ص561

4- في الكتابات المصرية القديمة “الهيروغليفية” وردت إشارة صريحة للعرب بالاسم، في العصر البطلمي (من 333 إلى سنه 30 ق.م) في مصر باللغة اليونانية. ص562

5- يرد الجذر “عرب” في كافة اللهجات الآرامية وابتداءً من آرامية الدولة من القرن السابع إلى القرن الثالث ق.م كفعل يعني “أعطي ضمان، أمان”. م.س.

6- وردت إشارة إلى وجود العرب في منطقة بلاد الشام في القرن السابع ق.م بلفظ “عربي” في حِكَم أحيقار الآشوري تقول الحِكمة: “لا تُري العربي البحر ولا الصيداوي -نسبة إلى مدينة صيدا الفينيقية –  الصحراء لأن نمط كل منهما مختلف”. ص562.

*تعليقي: إن هذه المعلومة تستند إلى دليل مادي أركيولوجي معروف هو نسخة من حِكَم أحيقار مكتوبة على إحدى عشرة ورقة مصنوعة من عجينة البردي بالخط الآرامي. وقد عثر عليها في جنوب مصر في جزيرة إلفنتين/ الصورة ويرجح الباحثون انها كتبت بعد قرن ونصف من وفاة أحيقار الآشوري. أعتقد أن هذه المقولة أو الحكمة أتت كمثل سائر يفيد استحالة الجمع بين المتناقضات وهي تذكرنا بالمثل العربي السائر المعاصر “شو جمع الشامي عَ المغربي؟”. وبهذا فقد توفر لدينا دليلان آثاريان ملموسان لا جدال حولهما يحددان لنا أول ظهور للعرب كمجموعة بشرية هما نصب شلمانصر الثالث من القرن التاسع ق.م وحكم أحيقار الآشوري من القرن السابع ق.م.

أقرأ أيضا