حرب جابوتنسكي: «إسرائيل» من دويلة مليشيات إلى عصابة اغتيالات

دولة مليشيات عصابية

حتى وإنْ نسي طلبة التاريخ الحديث فلن ينسوا أن هذا الكيان السياسي الأيديولوجي الديني الذي يحمل اسم “إسرائيل”، أُسس رسمياً سنة 1948 كتجميع لخمس مليشيات فاشية في دويلة طارئة من ذلك النوع الذي ينشأ ويذبل ويموت كما الطحالب على هامش التأريخ. وحتى خلال التاريخ اليهودي القصير في وسط فلسطين، ورغم أن مستوطني الكيان الأوروبي الإسرائيلي القائم اليوم لا يمتون بصلة سلالية أو لغوية حقيقية إلى يهود فلسطين القدماء “بني إسرائيل” شبه المنقرضين، وليس من حق بنيامين ميكولوفسكي (المتنكر بالاسم اليهودي نتن ياهو =عطية الرب) مصادرة تراثهم وقصتهم لما قبل الميلاد، فقد نشأت الدويلة الميكابية من مجموعات من المسلحين الجوالين في ضواحي أورشليم -القدس وحكمتها السلالة الحشمونية (من سنة 167 ق.م، إلى 37 ق.م).

لقد نشأت “إسرائيل” المعاصرة كدولة مليشيات عصابية. وتحولت هذه الدولة المليشياوية بمرور الوقت وبزيادة الدعم والتبني الغربي لها، إلى عصابة قتل واغتيالات تمارس الإبادة الجماعية المُمنهجة ضد السكان الأصليين. وإذا كان العالم غائباً إعلامياً عن مجازر المهاجرين البيض في الأمريكيتين، والتي انتهت إبادة السكان الأصليين بصمت وهدوء، فأن إسرائيل المليشياوية ترتكب جرائمها الإبادية بحق الفلسطينيين وتبثها بالمباشر وسط سكوت وذهول دول العالم.

إن هذه الدولة العنصرية بموجب قوانينها، وخصوصا “قانون يهودية الدولة القومية لسنة 2018″، تُحاكَم الآن أمام قضاة محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية. وحاكمها نتنياهو ووزير دفاعه غالانت (الذي وصف الفلسطينيين أمام وسائل الإعلام العالمية بأنهم حيوانات لا يستحقون الحياة) متهمان بارتكاب جرائم حرب من قبل المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية. لقد طلب هذا الأخير قبل أشهر إصدار مذكرة اعتقال بحقهما، ولكن المحكمة تأخرت في إصداره لأنها خضعت – كما يظهر من القرائن –  لتهديد وابتزاز مجموعة من نواب الكونغرس الأميركي الصهاينة الإنجليكانيين الذين يسيطرون عليه بتسليط مجموعة من العقوبات عليها.

 كما ثَبُتَت على “إسرائيل” جريمة قتل الأطفال الفلسطينيين ومعاملتهم بشكل سيء وعنصري وصدر بذلك قرار يدين جيشها من الأمم المتحدة.

غير أنَّ هذه الدولة ماتزال توصَف من قِبل الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا بأنها الدولة “الديموقراطية الوحيدة” في الشرق الأوسط وأنَّ أعداءها “ضحاياها” إرهابيون وقتلة!

لقد تحولت “إسرائيل” منذ عقدين تقريبا من دولة مليشيات عصابية يقودها متطرفون فاشيون من أمثال جابوتنسكي إلى دولة مريضة ومدمنة على الاغتيالات وسفك دماء المدنيين وخاصة الأطفال! هذه لم تعد تهمة يوجهها لإسرائيل أعداؤها وضحاياها الفلسطينيون والعرب بل قال بها كتاب ومحللون صهاينة. قال محلل الشؤون الاستخبارية في صحيفة هآرتس، يوسي ميلمان ذلك صراحة: “أن هدف الاغتيالات – لدى حكومة إسرائيل- هو الانتقام وإشباع رغبات الجمهور الإسرائيلي؛ حيث وقعت إسرائيل في غرام الاغتيالات، وربما أصبحت مدمنة عليها”.

مليشيات صارت جيشاً له دولة

أما المليشيات الخمس التي اندمجت لاحقاً ببعضها لتؤلف ما يسمى بـ “جيش الدفاع الإسرائيل” ليكون “جيشاً له دولة لا دولة لها جيش”. وهذه العبارة ينفي نتنياهو مضمونها كلما شَجَرَ خلاف بينه وبين قيادة جيشه وهو يعلم أنه يكذب، فما هو موجود أمامه جيش له دولة، فهي باختصار:

1-هاغاناه: وهي المليشيا الفاشية التي قتلت 360 فلسطينيا في مجزرة دير ياسين يوم 9 نيسان 1948. ويعتبرها مؤرخو الكيان “حجر الأساس لجيش إسرائيل الحالي”. ومن رموزها إسحق رابين وإرئيل شارون ورحبعام زئيفي الملقب بوزير الترانسفير أي المنادي بتهجير الفلسطينيين، والذي نفذ مقاتلو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين به حكم الشعب بالرصاص في 17 تشرين الأول – أكتوبر سنة 2001.

2-بلماخ: “سرايا الصاعقة” من أشهر رجالاته: إيغال آلون وموشيه دايان وإسحق رابين. وقد قرر بن غوريون، أول رئيس للكيان، حل هذه المليشيا وإدماجها في جيش الدولة الصهيونية فكانت كما يقول مؤرخوهم “العمود الفقري التأسيسي لهذا الجيش”. وعلى الأرض كان جيشا لديه دويلة مسلحة حتى الأسنان بأحدث الأسلحة الغربية الفتاكة.

3-إرغون: اشتهرت بدمويتها وبشعارها الذي يحتوي على خريطة فلسطين والأردن معا، وعليها صورة بندقية وعبارة «راك كاخ» أي (هكذا وحسب). وقد قتلت مئات المدنيين الفلسطينيين خلال أكثر من 60 جريمة مسلحة.

4-شتيرن: أسسها البولندي أبراهام شتيرن، وقد ثبُت عليها بالأدلة تحالفها مع الحزب النازي الألماني حيث “كشفت الوثائق الرسمية الإسرائيلية عن لقاءات بين قيادات من شتيرن ومسؤول من وزارة الخارجية الألمانية النازية في بيروت في نهاية عام 1940”. وكانت شتيرن تتعاون أيضا مع القوات البريطانية التي تحتل فلسطين آنذاك. وقد شاركت هذه المليشيا في جريمة مجزرة دير ياسين إلى جانب مليشيا إرغون.

5-بيتار: تأسست في عام 1923 خارج فلسطين، في مدينة ريغا اللاتفية من قبل شخص متطرف يدعى جابوتنسكي. ومن هذه المليشيا خرجت حركة حيروت ثم حزب الليكود بزعامة نتنياهو. ومنها تخرج ثلاثة من رؤساء وزراء للكيان هم إسحاق شامير ومناحيم بيغن وبنيامين ميكولوفسكي “نتنياهو” الذي يَعتبر الفاشي جابوتنسكي أباه الروحي والفكري!

بمرور الوقت وحصاد الجرائم وأشنعها جريمة اقتلاع نصف الشعب الفلسطيني صاحب الأرض ورميه خارج وطنه حتى يومنا هذا، تحولت هذه الدويلة المليشاوية إلى عصابة قتل محترفة ومتخصصة في الإبادة الجماعية التي بلغت ذروتها في تدمير وإبادة أكثر من أربعين ألفا من سكان غزة قتلا وتجويعا إضافة إلى تخصصها في الاغتيال السياسي.

من جابوتنسكي إلى ميكولوفسكي 

ولد بنيامين ميكولوفسكي “نتنياهو” بعد تسع سنوات على موت جابوتنسكي القيادي اليهودي الأوكراني اليميني المتطرف وصاحب نظرية الجدار الحديدي في أميركا سنة 1940 أي انه مات قبل تأسيس الكيان بثماني سنوات. ولكنَّ والد بنيامين، المؤرخ بن صهيون ميكولوفسكي، كان بمثابة حامل التراث الفكري الحي للرجل الميت. لقد كان بن صهيون لفترة طويلة مستشاره وسكرتيره الشخصي وحافظ أسراره وكان الوسيط الذي مرر الكثير من أفكار الرجل العصابي الميت إلى ابنه الشاب بنيامين لاحقا.

نعود إلى نظرية الجدار الحديدي المعروفة – إلا لدى ضحاياها العرب! – لجابوتنسكي وخلاصتها أن العرب الفلسطينيين لن يوافقوا على وجود أغلبية يهودية في فلسطين تكون لها السيادة في دولة، وأن الاستيطان الصهيوني لا يمكن أن يستمر ويتطور إلا تحت حماية قوة صهيونية مسلحة مستقلة عن السكان الأصليين وخلف جدار حديدي لا يمكن للسكان الأصليين اختراقه.

ويضيف جابوتنسكي أن الحل الوحيد لإقامة الدولة الصهيونية في ما يسميها “أرض إسرائيل” هو أن يقوم اليهود أولاً بإقامة دولة يهودية صهيونية قوية بالسلاح، ترغم العرب على إيصال عرب معتدلين إلى القيادة، ليتفقوا مع اليهود على حلول وسط، وتضمن لهم – للفلسطينيين – الحكم الذاتي ولليهود السيادة الجيوسياسية. ولكن جابوتنسكي رفض مشاريع تقسيم فلسطين مبكراً إلى دولتين حين بدأ الغرب وبريطانيا خصوصا التبشير بها. وكان يؤمن بإقامة “دولة إسرائيل الكبرى بين النهرين” أي نهري الفرات والنيل على أساس الفلسفة الصهيونية العلمانية المحتكمة إلى القوة مع وجوب عدم خلط الديانة اليهودية بالصهيونية السياسية. وأن لا تأخذ الصهيونية من اليهودية الدينية إلا “جرعة صغيرة”.

ومن الواضح أن نتنياهو – وحزبه الليكود وعموم الصهيونية الدينية- ما يزال وفيا لمبدأ الاحتكام للقوة العسكرية في التعامل مع الفلسطينيين ورفض الموافقة على إقامة دولة لهم بل التمسك بالحكم الذاتي سقفاً للحل وفق الرؤية الجابوتنسكية!

مات جابوتنسكي في أميركا سنة 1940، ورفض عدوه السياسي اللدود بن غوريون بعد إقامة الكيان دفنه في فلسطين كما أوصى، حتى جاء مواطنه الأوكراني ليفي أشكول إلى رئاسة الحكومة سنة 1964 فسمح بدفنه هو وزوجته حسب رغبته في جبل في ضواحي القدس. غير أن مجموعة جابوتنسكي وحاشيته استمرت بالنشاط العسكري والمدني الاستيطاني. واستمرت أفكاره الفاشية المتطرفة حية تنتشر بين صفوف المستوطنين. ثم وجدت حاضنتها في حزب حيروت الذي صار حزب الليكود لاحقا أكبر أحزاب اليمين الصهيوني والذي دفن عمليا حزب اليسار الصهيوني” حزب العمل”. وفي سنة 2005 نجح الليكود في استصدار قرار من الكنيست يقضي بتمجيد جابوتنسكي وإحياء تراثه الفكري.

جدار جابوتنسكي الحديدي والآخر الإسمنتي

 ممن عالجوا سيرة ونظريات جابوتنسكي المؤرخ اليهودي العراقي المعارض للصهيونية آفي شلايم. ففي عام 2000 نشر شلايم كتابا بعنوان ( The Iron Wall: Israel and the Arab World)، لم يترجم إلى العربية بعد على حد علمي رغم أهميته الفائقة، قدم فيه عرضاً مكثفاً عن خلفية وتاريخ زئيف جابوتنسكي وأفكاره وخاصة عن نظريته “الجدار الحديدي”.

جدير بالتذكير أن جدار جابوتنسكي الحديدي ليس جدارا ماديا كالجدار الإسمنتي الذي شيَّده إرئيل شارون بل هو جدار معنوي ومخابراتي هدفه القضاء على التطلع الاستقلالي لدى الفلسطينيين والعرب عموما وإخضاعهم تماما لهيمنة الدولة الصهيونية عبر سياسات استعمال القوة المفرطة والتهجير الجماعي “الترانسفير” والاستيطان إضافة إلى الإغراءات الاقتصادية.

يعتقد آفي شلايم أن آراء جابوتنسكي الغامضة وغير المفهومة حتى من قبل أنصاره حين كان على قيد الحياة، كانت تشدد على تحقيق أهداف الحركة الصهيونية في إقامة دولتها بالقوة واعتماد السبل العسكرية لذلك وحمايتها بالجدار الحديدي الذي لم يكن حلا نهائيا في نظره. بل “وسيلة لإنهاء العداء العربي للحركة الصهيونية ومنح العرب الفلسطينيين حكما ذاتيا”. ومن يراجع برنامج حزب الليكود قبل وبعد تزعمه من قبل نتنياهو يجد أنها نسخة طبق الأصل من استراتيجية جابوتنسكي. وهذا ما يؤكده شلايم بالقول “إنَّ ما حدث على أرض الواقع هو ما أسس له جابوتنسكي في مقالته حول الجدار الحديدي بالضبط. وقد وقع القادة الإسرائيليون في غرام مرحلة فرض الدولة اليهودية بالقوة”.

وعلى الرغم من أن استعراض شلايم لسيرة جابوتنسكي ونظرياته يبدو تبريرياً ومُلَطَفاً في أجزاء كبيرة منه، ربما لتغلب نزعة التأرخة الاحترافية “المحايدة” لديه على الأخرى النقدية، ولكنه يبقى استعراضاً مفيداً يسمح لنا بتلمس معلم النهج الفاشي الذي وضع جابوتنسكي ركائزه، وبنى عليها واستكملها نتنياهو وأضاف له من عندياته أفكاراً أخرى من بينها فكرة تجاوز وإغفال وجود الشعب الفلسطيني ومحاصرته بالقمع والاغتيالات والجدران العازلة ومراقبته بالطابور الخامس وسلطة أوسلو حتى يقضي على نزعة المقاومة لديه تماما، ومن ثم العبور الى قيادات عربية محافظة وخانعة مباشرة وعقد صفقات سلام معها بعيداً عن فلسطين والفلسطينيين وبدعم وتبنٍ أميركيين وغربيين كاملين.

لقد نجح نتنياهو في تنفيذ جزء مهم من هذه الستراتيجية الجابوتنسكية في عهد الرئيس الأميركي اليميني المتطرف ترامب، وخصوصا مع الدول العربية المحافظة والملكية كالإمارات والبحرين المهددتَين بغلبة التغيير الديموغرافي الأسيوي على السكان الأصليين العرب والمملكة المغربية إضافة إلى مصر والأردن اللتين تعيشان على حافة الإفلاس الاقتصادي. وقد كرر باحثون وساسة إسرائيليون كثُر، منهم مثلا الوزير والمؤرخ العسكري الصهيوني يوعاز هندل، أن عمليات التطبيع واتفاقايات السلام بدءاً من اتفاقية كامب ديفيد مع مصر (1978) ووادي عربة (1994) مع الأردن واستمراراً في ما سُمي ” الاتفاقيات الإبراهيمة” هي نتيجة مباشرة لتطبيق ستراتيجية جابوتنسكي التي أخذ بها تلميذه نتنياهو.

ولكن العرب – وبخاصة الحكام -لا يقرأون كما قيل. غير أنَّ عملية هجوم طوفان الأقصى المجيدة وجهت لطمة هائلة ومدوية إلى هذه الستراتيجية الجابوتنسكية وأوقفتها تماما بل وجعلت الكيان نفسه تترنح. وقد شبه الكاتب الصهيوني جدعون ساعر – كما ينقل لنا الباحث التونسي في الدراسات اليهودية د. فوزي البدوي – ما حدث في 7 تشرين الأول – أكتوبر بثغرة كبرى في جدار جابوتنسكي الحديدي يجب أن ترمم بسرعة وأن لا تتكرر أبدا. وهنا، وبمجرد الخروج من حالة الشلل والذهول من هول الضربة الفلسطينية، بادر خليفة جابوتنسكي “نتنياهو” إلى الدخول في مرحلة التهجير الجماعي وحين فشل فيها بفعل الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني بادر إلى شن حرب الإبادة الجماعية الفعلية الجارية أمام أعين العالم اليوم.

ومن الأمور المهمة والتي قد لا تخلو من المفاجأة لمن يجهلون مَن هو جابوتنسكي أنه يعترف صراحة، وعلى عكس زملائه المؤسسين الصهاينة من قادة اليسار الصهيوني كغولدا مائير أو من تلميذه اليميني اللاحق نتنياهو، يقرُّ بأن الفلسطينيين العرب هم السكان الأصليون لفلسطين ويكرر وصفهم بعبارة “السكان الأصليون” في مقالتيه عن الجدار الحديدي، وأن اليهود الأشكناز والسفارد القادمين من أوروبا وغيرها هم غزاة يريدون وطناً وسيأخذونه بحد السيف وإنه لو كان فلسطينياً لقاوم الغزاة/ مقابلة تلفزيونية مع البدوي “!

فهل سيتمكن بنيامين ميكولوفسكي “نتنياهو” من ترميم الثغرة التي أحدثها الطوفان الفلسطيني يوم السابع من تشرين الأول -أكتوبر في جدار معلمه الأوكراني جابوتنسكي أم أن المزيد من الثغرات ستنفتح ولن تتمكن لا أميركا ولا حلفاءها الغربين والعرب من تفاديها أو ترميمها؟

أقرأ أيضا