صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

حمام الدم السوري

لم تكن نهاية الأزمة السورية مفاجئة، ولكن توقيتها كان مبكرا، فالمفروض أن تنتظر المعارضة حتى نهاية الاستحقاق الحالي، ونقل السلطة سلميا لرئيس جديد منتخب، فقد كانت المشكلة هي في عدم ثقة جميع الفصائل بالدستور المعطل وبنوده، إذ جاء البعث إلى الحكم بانقلاب، ولم يكن من المهيأ له أن يغادر إلا بعمل عسكري مماثل. 

وإذا نظرنا إلى المشهد الحالي بتعقل سيثبت لنا أن البعث هو الحلقة الأضعف بالمعادلة، ومهيأ أكثر من غيره للتخلي عن السلطة مقابل ضمان شكلي، مثل تبديل اسمه، وتوزع قياداته على هيئات سياسية متحولة وهزيلة، وفعليا كان البعث مجرد هيكل من الإسمنت والتوتياء – وليس الحديد- بقايا أبنية باردة لتكويم الأضابير وسيارات لخدمة المنتفعين فقط، وضمن دائرة من الهموم الضيقة والعاجلة. ولم يعد من النادر أن تشاهد موظفا في المؤسسة يعمل على سيارة أجرة أو في متجر محلي. ومن لديه خدمة علم يلاحظ ضعف وهشاشة إدارة التوجيه المعنوي التي يديرها البعثيون، بعد أن كانت في الثمانينات بيد فئة مثقفة وتراهن على تحرير فلسطين، ولديها اتصال مع حركات التحرر والهيئات الطلابية في العالم، تحولت في التسعينات وعمليا إلى بقاليات، ومع خطاب له رطانة محلية تختبئ وراء العلموية المزيفة. 

ولا أذيع سرا إذا لاحظت أن جامعاتنا منذ منتصف التسعينات هي مدارس، ولا تقدم للمجتمع أي خدمة، وتزيد من أعباء المال العام، بمعنى أن هدفها الإنفاق دون أي مردود، وطالما سمعت أحد حراس الجامعة يردد علنا: هذا الجيش من الموظفين عبارة عن مصاصي دماء، ومع أنني مبتهج بسبب نهاية الأزمة بأقل التكاليف، ودون حمام موت كنت أتوقعه، أو مجازر كنت أخاف منها، وهذا لا يعفينا من الإشارة لنقطتين:

الأولى تجديد النظام نفسه بدماء مستعارة، وغير أصيلة وليست منه، ورافقها تسلل الكثير من العناصر غير المؤمنة والتي لا يهمها غير الاستفادة من تسهيلات البعث، وما تراكم لديه من أصول، كالميزانية الخيالية والسيارات والمكاتب الفخمة، علما أن خطابه لا يمت بصلة لجذوره.

الثانية، وأرى نفسي مضطرا لاستعارة حكمة ترامب، الرئيس الأمريكي المثير للجدل، وهي أن سوريا ستفشل بسبب اعتمادها على إيران وروسيا. وربما كان مصيبا. على الأقل بهذا التنبؤ، فأمريكا والاتحاد الأوروبي من المؤسسات الديمقراطية العريقة، والنموذج الغربي يسمح بالتحول الديمقراطي. ولن ترافقه أي اختناقات سوى خسارة اقتصادية وتعطيل اجتماعي وثقافي مؤقت، وخسارة جزء أفضل من خسارة الكل، في حين أن الذاكرة الإيرانية حافلة بالانقلابات الكارهة للديمقراطية، وبالثورات التي تكتسح الشارع، ويزيد من خطورتها أنها إسلامية، وليس سرا أن إيران أكبر داعم لعدد من حركات الجهاد الإسلامية من غزة ولبنان غربا، وحتى اليمن جنوبا، وهي الحليف الأخير على ما يبدو لحماس وحزب الله وأنصار الله، ومثلها ذاكرة الروس. فقد اجتاحت روسيا عدة ثورات دامية تخللها العنف والنهب، مع غسيل للسجون بشكل مروع ومؤلم ومحزن أيضا.

واستقر الشأن الروسي أخيرا على إنشاء فيدرالية تماثل الفيدرالية الإيطالية والبريطانية، ويعتبر هنتنغتون أن هذا التوجه كان مؤشرا للموجة الديمقراطية الثالثة، وسيكون بوابة لموجة رابعة لا بد أن تشمل الشرق الأوسط، وأينما توجد قواعد عسكرية للروس. واتباع النموذج الروسي سوف يفرض حتما التخلي عن الأحزاب الإيديولوجية وتهميشها وإنشاء أحزاب وطنية، تؤمن بسياسة السوق وتعويم الخزانة، مع دعم كامل لجهتين لا يمكن للشرق أن يتخلى عنهما. الأول المؤسسة العسكرية، حتى لو من وراء قناع شكلي. والماكينزية الجديدة والتي تفتح الباب للاستثمارات مع قدر ضامن من الرقابة أو مشاركة الدولة. 

كل هذه الاعتبارات جعلت من الضامنين المهمين للنظام السوري عاملا مؤهلا لحضانة ثورة جهادية شعبية -حسب التصور الإيراني-، ولكن بأدوات مختلفة ولسان ولغة معاكسة. أو انقلاب قصر -حسب التصور الروسي-. وأعتقد أن هذا هو السبب الذي حدا بترامب للنأي بالنفس بعد إعلان نهاية فصل من فصول الأزمة السورية، لكن هذا لا ينفي أن تكون لدى استخباراته علم مسبق، وأنها مهيأة لتقاسم الأرض السورية. ويبقى الرهان الآن على المساحة التي سيستفيد منها السوري العادي والذي خرج من حمام دم لا يعرف هل سيكون هو الأخير، كما آمل وأرجو، أم بداية لمستنقع آخر.

أقرأ أيضا