مع ازدياد الأزمات السياسية والكوارث الطبيعية في العقود الأخيرة في معظم انحاء المعمورة، غَدا تدخل وعمل المنظمات الأنسانية للقيام بالعمليات الأساسية لمساعدة المواطنين من النازحين واللاجئين والمشردين، واقع حال وامرا لابد منه، خصوصاً بعدما واجهت الدول ظروفاً طارئة وإستثنائية، أقل ما يقال عنها كارثي، حيث لا تستطيع تلك الدول ان تلبي الإحتياجات الأساسية بمفردها. من هنا ظهرت علاقة ومفهوم من نوع جديد بين السيادة الوطنية ووظيفة الدولة من جهة وطبيعة عمل تلك المنظمات من جهة اخرى بحيث استوجب سن قوانين واطر للعمل المشترك بين الدول وبين الدول وشعوبها على اسس شرعية لتقديم المساعدة وتطبيقاً للقوانين الدولية والمحلية اذا كانت هناك هكذا القوانين، حتى لو كانت تلك القوانين إبتدائية والتي أذا ما دعت الحاجة يجب تعديلها من اجل تنظيم تلك العلاقة وفق المصلحة العامة.
طبعاً، في الكثيرمن الأحيان، الاولوية هي الأستجابة السريعة والآنية لأزمة أنسانية كبيرة معينة وقد تكون تلك الأستجابة على حساب سيادة البلد، هكذا الموقف يستوجب الشكر عليه في سياقه الأنساني البحت حين يكون الغرض على سبيل المثال حملة إعادة إعمار او مساعدة مدينة منكوبة أو ازاحة ركام لدمار شامل نتيجة لحرب لعينة، ولكن في حالات وازمات اخرى كالعراق مثلاً حيث شهد البلد حروبا طاحنة لعقود مديدة، إتخذ التدخل أشكالاً متعددة ومراحل مختلفة من الدمار حسب جغرافية المناطق وطيبعة التحديات والمشاكل وكذلك طبيعة السلطة المحلية وإدارتها للمنطقة حسب نظرتها لمصالحها والعلائق السياسية التي تحكمها. وقد كانت تلك المساعدات تُقدم أحياناً كجزء مًكمل للعمليات العسكرية من اجل توفير مظلة شرعية للعملية العسكرية أو لتنفيذ برامج دولية تعبرعن إرادة دولية او تطبيق سياسة خارجية معينة لبلد ما.
ولكن اللافت الآن ومع الأسف الشديد عدم وجود مراجعة ودراسة وتصنيف وتقييم شامل لطبيعة تلك المساعدات والتدخل الأنساني وعدم وجود خارطة طريق كبقية المسائل الأخرى لكيفية استثمار تلك المساعدات في برامج وطنية شاملة تٌعزز مفهوم السيادة الوطنية وتساعد الدولة على خلق نوع من اسس للتوجه بالبلد الى الإستدامة الممكنة والحفاظ على تلك الكفاءات التي اكتسبت الخبرة في إدارة المشاريع، بعيداً عن التنسيقات الحزبية والمحاصصة السياسية، سواء كانت تلك كفاءات فنية متخصصة أو إدارية قيادية داخل المجتمع بدل اضطرارها للهجرة خارج البلد هروباً من اليأس السائد حيث لا يوجد بصيص من الأمل في نهاية هذا النفق الحالك المتصدع والممتد من المهد الى اللحد.
دعونا، في البداية، نسترجع التعريفات الكلاسيكية للسيادة ومعرفة اذا ما كانت لا تزال تتجسد في وجود الاستقرار والسلم وحماية حقوق الأنسان؟ الا تتنفقون معي انها أعقد من ذلك؟ من هو المانح والراعي للسيادة؟ نحن في العراق طوال العقود الماضية قبل السقوط بزمن بعيد والأن منذ انهيار البلد المنهار اصلاً لم نشعر يوما ما بأن حماية ارواح البشر وحقوقه ببساطة شديدة هي جزء اساسي من حماية سيادة البلد، فبدلاً عنها، اصبح التدخل الخارجي متمثلًا بعمل المنظمات الأنسانية في مرحلة ما و لظرف ما يقوم بوظيفة ترسيخ مفهوم السيادة ولكن بطرق مغايرة والتي لم تكن متعارفة عليها من قبل، فالعمل مع منظمات المجتمع المدني على سبيل المثال يتطلب قوانين عمل جديدة تعمل على بناء اسس دولة جديدة في فترة وجيزة. في العراق، كما هو معروف حصل التدخل الأنساني بعد عقود من الإنعزال عن العالم الخارجي ولم يكن ذلك بسبب حدوث كارثة طبيعية، وانما كانت نتيجة لحسابات سياسية خاطئة.
هكذا الإحتكاك المفاجئ بين بيئة قديمة وفي ظل وجود دولة التي كانت بدات تتآكل منذ يومها الأول والتطورات الدولية السريعة التي القت بظلالها على العراق اوجدت، منذ ذلك الحين، مفاهيم خاطئة و مغلوطة لدور الدولة والمنظمات الإنسانية والشركات الدولية أو اي جهة دولية كانت تريد ان تعمل في العراق. ومع مرور الوقت اصبح من الصعب معرفة من هو راعي البلد ومن هو المانح، هل هو المنظمات الدولية والموظف الأجنبي الذي يأتي للبلد ويبقى فترة قصيرة ويؤدي عمله دون ان يترك اثراَ ايجابياً أو بصمة عمل مؤسساتي؟ ام السياسي المحلي الهاو الذي يمزق البَلد اكثر مما هو مُمزق. الا تتفقون معي، مرة ثانية، بأن ما جرى في البصرة مؤخراً وما يجري لاحقاً من أزمات أخرى هي خير مثال لما تحدثنا عنه، بلد لا يملك السيادة ولا القدرة على حماية الناس بالرغم من وجود مئات من المنظمات الدولية وعناوين للحكومات الأتحادية والمحلية والقنصليات الدولية. فبسبب وجود فراغ سياسي قيادي والعمل المتشتت وغير المنسق بين المنظمات لا يوجد الراعي الحقيقي لادارة دفة الحكم واستيعاب الجهود الممنوحة في الية موحدة لتجسيد العمل السيادي في البلد.
هل هكذا التحديات تم مناقشتها في المؤتمر الأخير للدول المناحة والذى عقد في دولة الكويت في العام الماضي، اشك في ذلك، لأن هذا المؤتمر لحد الأن لم يثمر عنه شئ يذكر والوفد العراقي الكبير الذي حضر المؤتمر لم يستطع اقناع الدول المانحة بطروحات جديدة لأدارة الأموال والمساعدات الدولية.
سنردد لزمن بعيد وطويل بأن العمل على تقوية البنية التحتية للدولة والقدرة الذاتية المهنية وتطوير قوانين حديثة تناسب مستوى التحديات الداخلية والخارجية هي السبل الكفيلة لأستعادة مفهوم واضح للسيادة بحيث يجسد فيها حماية مصالح افرادها الشرعية وان يكون دور كل واحد مهما مكملاً لدور الآخر من اجل خلق هوية وعنوان جديد للبلد.