صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

حين تبوح الأشجار بذاكرة الأرض

تتشبث تلك الاشجار بجذورها في الأرض وكأنها تحمي معانٍ متوارثة لكل منطقة في العراق،  تروي قصص أهلها ومعتقداتهم وأحياناً مخاوفهم 

لا زالت بذاكرتي تلك النبكَة (شجرة السدر) التي سرعان ما نمت بحديقتنا لتمد جذورها بعمق الأرض وتتشابك أغصانها ، مع كل هبة ريح تنثر ثمارها الصغيرة كالمطر في كل مكان، كنا كثير ما نسمع ان شجرة النبكـَ كما نسميها أو كما يسميها البعض “العلوية ” التي تُحيط بها رهبة خاصة جعلت الناس لا تتعرض لقطعها إلا ان تكون ذات ضرر ومع ذلك ينصح بفدية لها ،  لكن أبي كان يرى أنها تأخذ مساحة كبيرة وتمنع الشمس عن بقية النباتات، حاولت أمي إقناعه بعدم قطعها محذرة إياه من أنها ليس مجرد شجرة بل رمز للبركة لكنه لم يهتم كثيراً بالمعتقدات القديمة فقطعها ذات صباح في المساء اندلع حريق في المطبخ بسبب تماس كهربائي والتهمت النيران جزءاً منه ، وقفت أمي عند باب المطبخ عاقدة يديها وهي تردد بصوت خافت ألم أقل لكم أن لا تقطعوها ، في اليوم التالي لم يكن أمام أبي سوى شراء طير دجاج وذبحه “فدوة” للشجرة وهو ما اعتاد عليه اهلنا عند المساس بشيء يحمل بركة قديمة.

 هذه الحادثة لم تكن مجرد صدفة بل هي موروثات مبنية  على العلاقة العميقة بين الإنسان والبيئة وما تحمله من معتقد ، فالأشجار ليست مجرد نباتات بل كيانات حيّة تحمل طاقة الأرض وذاكرة المكان وتتحول مع الزمن إلى رموز لها قداستها الخاصة التي اوصلت البعض الى ربط خرق القماش كجزء من طقوس النذر حيث يطلب الناس الأمنيات عند هذه الشجرة التي يُعتقد أنها مباركة والأولياء يفضلونها لكنها ليست منفردة بذلك فالأشجار في العراق رموز للطبيعة والانتماء والمعتقد  

النخلة رمز الشموخ والمهابة   

لا توجد شجرة أكثر ارتباطاً بالهوية العراقية من النخلة ، خبز تنور الطين الذي ينضج من لهيب سعف النخيل جزء من ذاكرة العراقيين ، أما ثمرها فهو سيد الفواكه دون منازع  وما في هذه الشجرة يتعدى الفوائد الغذائية أو الاقتصادية الى الناحية الثقافية والروحية. 

ففي التراث العراقي، يُعد النخيل رمزاً للخصوبة والنماء، وطيفاً من الأمل الذي يرافق الفلاحين في الأراضي الخصبة الممتدة على ضفاف نهري دجلة والفرات فهي الظلال وقت القيظ والدفء مما تجود به من الحطب في الشتاء.

وفي المعتقدات الشعبية يرى في النخلة الشجرة مباركة التي تعزز الحظ والتي توازي قوتها وصلابتها قلب الفلاح العراقي وتكون بمثابة حارس طبيعي للأرض، تتجدد في كل موسم كما تتجدد الحياة نفسها. 

ولم يقتصر حضور النخيل في التراث العراقي على الجوانب اليومية فقط، بل كان له مكانة خاصة في الأدب والشعر  كرمزاً للحياة والكرم والصمود أو للجمال بوصف نزار قباني لعيون محبوبته “عيناكِ كشجرة نخيل ساعة السحر” إذ شبه جمال النخلة في لحظة الفجر، حيث تكون في أبهى صورها بوجود الندى المتلألئ مع ضوء الشمس ، بجمال العيون التي تتفتح في لحظة السكون والصفاء.

والنخيل تحديداً خير من حمل ذكريات الأجيال وتاريخ الأرض بما مر به العراق ، فمن ينظر لجذوعه سيرى فيها تاريخ اعوام مضت من الخير والعجاف متمثلة فيها وكأها تروي قصص الأرض للناظرين .

لكنها تبقى رمز للحياة المتجددة والأمل الذي لا يموت، وقوة الأرض التي لا تنكسر، كما أنها تحمل في ثناياها روح العراق وعراقته، تلك التي لا تتوقف عن النمو والتجدد على الرغم من كل العواصف تبقى ثابتة وشامخة ومهيبة. 

شجرة الجوز القوة والصلابة  

في شمال العراق حيث الجبال الشاهقة والبرد القارس نجد أن أشجار الجوز تمثل الصلابة التي تستمد عنفوانها من الجبال التي تعمر فيها بجذوعها القوية وامتداداتها التي ترمز إلى الثبات وكأنها الحارس أو السيد لما يحيط بها من أشجار كالمستكة التي تُفرز صمغاً عطرياً يُعرف بعلكة الماء وشجيرات العنب والزعرور والتفاح وغيرها من الشجيرات الجبلية التي تجود بمنتجاتها . أما في السهول الجبلية الخصبة فتحمل الأشجار رموز الوفرة والخصوبة وتُعد جزءاً من هوية كل منطقة ك “رمان حلبچة ”  الذي ان تناولته في بداية الموسم يجلب عاماً مليئاً بالخير و”عنب” الدجيل الذي يُمثّل الزراعة التقليدية ويرتبط بموسم الحصاد الذي يُعتبر احتفالاً بالحياة أما “برتقال ديالى”  ليس مجرد فاكهة بل علامة على هوية المحافظة .  

أما في الفرات الأوسط فلزراعة ” شلب العنبر” (الرز العراقي)  بعداً عميقاً لهوية المنطقة فهو ليس مجرد محصول غذائي بل علامة على خصوبة الأرض وجودتها ومنذ القدم كان الشلب من أهم المزروعات التي يفتخر بها الفلاح العراقي لأنها تتطلب مهارة وصبراً طويلاً وقد ارتبطت زراعته بالاحتفالات الموسمية التي تعكس ارتباط الإنسان بأرضه ودورة الحياة الزراعية . 

 القصب والبردي حياة تطفو فوق الماء 

في الأهوار حيث الماء والخضرة يلعب القصب والبردي دوراً يتجاوز كونه نباتاً عادياً القصب يُستخدم في بناء التراثي للبيوت والمضايف التي يمتد تاريخها للحضارة السومرية ، يُعد القصب والبردي جزءاً من هوية السكان المحليين، الذين يعتمدون على هذه النباتات في حياتهم اليومية. إذ تعكس هذه النباتات التكيف العميق للمجتمعات مع بيئتهم، واستثمارهم للموارد الطبيعية بشكل مستدام. حيث لا تقتصر الأهمية للقصب والبردي على الاستخدامات العملية فقط، بل تدخل هذه النباتات أيضاً في الثقافة والفلكلور المحلي والأغاني الشعبية، إذ يُشار لها كرموز للترابط مع الأرض والماء

يوم الحنة..

ومع ذكر الجمال فإنه لا يتكامل دون ذكر” شجيرة الحناء ” في الجنوب العراقي هذا التراث الثقافي العريق الذي لا زال يحمل رمزية عميقة في حياة النساء العراقيات باستخدامه منذ القدم كزينة أو قوة للشَّعر ، أو كجزء من العادات في المناسبات الاجتماعية مثل الأعراس والأعياد، حيث يُنقش الحناء على الأيدي والأقدام كجزء من طقوس الجمال والاحتفال. تُعد الحناء رمزاً للأنوثة، وتضفي لمسة من الفرح والجمال على الأفراد.

ايضاً في المعتقدات الشعبية، يُعتقد أن الحناء تحمل خصائص روحانية، فهي تُستخدم أيضاً للحماية من الحسد والشرور، وايضاً الصمود والتجدد وهي ترتبط بهوية الجنوب العراقي، كونها جزءاً من تقاليد الناس وعلاقتهم الوثيقة بالأرض.

النبتة الصغيرة التي تحمل ذاكرة كبيرة  

تنتشر في جميع بقاع العراق في السهول والمناطق الجبلية وحتى الصحارى العراقية تنبت زهرة البابونج البرية برائحتها العطرة وأزهارها البيضاء المتناثرة كأنها تضيء الأرض بحكايات قديمة وتبارك بها سكان الحضارات القديمة بحيث لا يكاد يخلو أثر من نقشها فيه تارة كحلي أو كدلالة على الجمال والبركة  وايضاً مثلت جزءاً من التراث العلاجي والحياة اليومية في بلاد الرافدين ولا يزال البابونج حاضراً في البيوت العراقية كشاي مهدئ يوحي بالدفء والراحة . 

 ما اوردناه من امثلة هي جزء صغير من التنوع الأخضر التي تمثل جزء من الموروث العراقي فما الذي يمكن ان نخسره مع اختفاء هذا الموروث ؟  

قد تبدو هذه المعتقدات من الخوف من قطع الأشجار إلى تقديس بعضها وعلى الرغم من انها  تقاليد قديمة لكنها في الحقيقة كانت جزءاً من نظام بيئي غير مكتوب حافظ على المساحات الخضراء ومنع التعدي العشوائي على الطبيعة، فإحترام النخلة والسدر والاعتقاد بأن بعض الأشجار مسكونة أو مباركة منع الإفراط في قطعها مما ساهم في التوازن البيئي وزراعة الأشجار كجزء من الهوية المحلية .

كيف يمكننا تعزيز الموروث الثقافي قبل أن تفقد الأرض جزءًا من هويتها؟

قد لا يكون كل شيء في الموروث الشعبي صحيحاً لكن في عمق هذه المعتقدات كانت هناك حكمة بيئية عميقة فاحترام الأشجار لم يكن فقط بسبب الخوف من سوء الحظ بل لأنه كان امتداداً لهوية الإنسان العراقي الذي يرى في الطبيعة جزءاً منه اليوم مع اختفاء هذه المعتقدات علينا أن نسأل أنفسنا هل فقدنا فقط بعض الأساطير أم أننا نخسر أيضاً جزءاً من أرضنا وهويتنا؟ الأشجار التي كانت تُقدس بالأمس تُقطع اليوم بلا تردد. لكن في النهاية ستبقى جذورها في الأرض تذكّرنا بأن هويتنا ليست في الكتب فقط بل في كل ورقة خضراء تتمايل في الريح وفي كل نخلة تمتد نحو السماء وفي كل سدرة تقف صامتة تنتظر من يعيد لها احترامها القديم.

أقرأ أيضا