صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

حين تُتهم تشرين بأنها مشروع صهيوني

في هذا الوطن الذي لا يكفّ عن ذبح الطيبين، لا تُقتل الأحلام مرّةً واحدة، بل تُذبح مرتين. مرة حين تُطلق رصاصة على صاحبها، ومرة حين يُشوَّه معناها ويُحرف مسارها. في العراق، من العادي أن يُغتال الصوت الطيب، أن يُجهض الحلم النقي، أن يُتهم من يطالب بالكرامة بالعمالة والخيانة. هكذا يحدث دائماً حين يعلو صوت الناس، ويشتد حراك غير المنتمين، وتتنفس الشوارع بلهيب الغضب والرفض.

الثورات لا تبدأ حينما يقرر أحدهم أن يخرج، بل حين تمتلئ القلوب بالخذلان حتى تطفح. والانتفاضة العراقية الأخيرة، تلك الممتدة في الشوارع والساحات، لم تكن شغباً عابراً ولا مؤامرة مزعومة، بل كانت تعبيراً صارخاً عن جيل انكسرت أحلامه تحت ركام الفشل السياسي، وضاعت كرامته وسط مستنقعات الفساد والطائفية والمحاصصة. جيل عرف أنه يعيش في تيه سياسي واقتصادي وخدماتي، لا يمكن إصلاحه بوعود خائبة أو بخطب فارغة.

خرجوا ليقولوا “نريد وطناً”، فاتهموهم بأنهم عملاء السفارات. طالبوا بالخدمات والعدالة، فقوبلوا بالقنابل الدخانية وبالقناصين. كتبوا للحرية، فكسرت أقلامهم وحتى بعد كل هذا، لم يَسلموا من الاتهام والتشويه. فمن لم يُقتل برصاصة، قُتل بشائعة، ومن لم يُخطف في الشارع، خُطف صوته في الإعلام.

وحين خمدت نار الساحات قليلاً، وعاد الحديث إلى قاعات البرلمان، خرجت علينا نائبة من داخل النظام الديمقراطي، لتقول بصلافة إن كل موجات التغيير في العراق منذ 2003 ليست سوى مشاريع صهيونية أمريكية. القاعدة، داعش، وحتى تشرين.. كلّها ـبحسب رأيهاـ أدوات أمريكية لتغيير الحكم!

هكذا وبكل بساطة يُختزل نضال شعب كامل إلى “مشروع أجنبي”. يُعاد تعريف الانتفاضه باعتبارها خيانة. يُقذف الأمل بتهمة العمالة. وليس هذا مجرد رأي عابر، أو تعبير شخصي. بل هو خطاب منظومة كاملة، تحمل رؤية ممنهجة لتشويه كل محاولة تغيير، وكل صوت حر، وكل خطوة للخلاص من هذا النظام المتعفن.

التمثيل الذي من المفترض أن يكون ترجمة لصوت الشعب، تحوّل إلى تنكيرٍ للشعب نفسه. نائبٌ يُفترض أن يمثّل الناس، يخرج ليطعن في جوهر حركتهم، ليصمهم بالخيانة، ويتبنى الرواية نفسها التي طالما استخدمها الفاسدون لتشويه خصومهم.

هنا، لا نتحدث عن مجرد انحراف فردي، بل عن ماكينة سياسية وإعلامية متكاملة، وظيفتها شيطنة التغيير وتجريم الحلم الشعبي. ماكينة تعرف أن بقاءها مرهونٌ بتخويف الناس من البديل، بتشويه الساحات، بتحويل المناضلين إلى “عملاء”، والثوار إلى “مندسّين”.

والسؤال هنا ليس: هل ما قالته تلك النائبة صحيح؟ بل: كيف يُسمح أن يُقال مثل هذا الكلام ؟ كيف يُترك تمثيل الناس بيد من يطعنهم، ويزيف تاريخهم، وينكّر تضحياتهم؟ أي نسخة هذه من الديمقراطية؟ وأي نوع من التمثيل الشعبي هذا؟!

في العراق، يتحوّل ممثلو الشعب إلى أعداء للشعب، والمتحدثون باسمه إلى جلادين له. لا يمثلونه، بل يُنكرونه. لا يُدافعون عن مصالحه، بل يحمون مصالحهم الخاصة، ومصالح القوى التي أتت بهم. وفي ظل هذا الانفصام، لم يعد مستغرباً أن يتهم من يرفع شعار “نريد وطنًا” بأنه عميل، وأن يُنظر إلى حراك تشرين وكأنه مؤامرة دولية.

لكن الحقيقة أقوى من كل محاولات التشويه. ف تشرين ليست مشروعاً صهيونيًا ولا أمريكيًا. بل هي المشروع الوحيد النابع من الداخل، من نبض الشوارع، من وجع الشباب، من وعيٍ تراكم حتى انفجر. من بساطة المطالب إلى عمق الشعارات، كانت تشرين امتداداً لمعاناة طويلة، ورداً صريحاً على منظومة الفساد والطائفية.

وقد استطاعت هذه الثورة أن تُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، أن تضع الناس في موقع الفاعل لا المتفرج، وأن تفضح من كان يتخذ من الديمقراطية ستارًا لحماية نظام متوحش. لهذا خافوها. لهذا حاربوها. ولهذا استمروا في تشويهها حتى اليوم.

لكنهم نسوا أن الدم لا يُمحى باتهام، وأن الصوت لا يُغتال بخطاب، وأن من خرجوا إلى الشوارع لا ينتظرون شهادة حسن سلوك من البرلمان. هؤلاء الذين حلموا بوطن، لن تُخيفهم تهمة، ولن تسكتهم أبواق الولاء.

وإن كنا نعيش اليوم في لحظة خمول سياسي، أو تراجع نسبي للحراك، فإن ذلك لا يعني نهاية التغيير. فالثورات لا تموت، بل تخبئ نفسها في صدور الناس، تنتظر لحظة أخرى للانفجار. وما يُزرع اليوم من وعي، سيُثمر غداً قوة لا تُقهر.

أما أولئك الذين يتنكرون للناس، ويُسخّفون أحلامهم، ويحوّلون البرلمان إلى منبر للهجوم على الشعب، فسيبقى التاريخ يطاردهم بوصمة العار. فالتاريخ لا يرحم، والناس لا تنسى.

وما بين التمثيل والتنْكير، يبقى الشعب هو الحكم، ويبقى الحلم حيًا… مهما حاولوا خنقه.

أقرأ أيضا