في اليوم المقرر لمغادرتي بغداد، إذ لم يبق على موعد الطائرة سوى بضع ساعات، اصطحبني زوجي لاختيار ورق جدران لمكان نهتم به كلانا، اجتزنا شارع ابي نؤاس بسرعة ومررنا باتجاه الباب الشرقي، عبر درابين عجائبية تنحني فيها شرفات البيوت البغدادية القديمة المزركشة والمطرزة بالنقوش الدقيقة فائقة الجمال والصنعة، أمام زحف البؤس الذي حولها الى مخازن للبضائع من كل لون. نزلنا في محل لبيع الورق ألماني المنشأ حسب ادعاء صاحب المحل، واستقبلنا شاب عشريني متحمس في عرض بضاعته ودقيق في وصفها، لكنه استخدم عبارة بدت غريبة لي فهو يقول مع كل مرة اطلب منه فتح لفة ورق (خادم عمة) ولزوجي (خادم عمي).. بعفوية طلبت منه ان يتوقف عن وصف نفسه بالخادم، لأنه ببساطة ليس خادما، لكن الشاب صار يكرر كلمة (خادم) بشكل مستفز، ونطقها ما يقارب 20 مرة خلال بضع دقائق.
حين غادرنا محل بيع ورق الجدران، سألت زوجي عن الأمر الذي أصاب الشاب بتكرار عبارته المزعجة بهذا الشكل، فأخبرني لأنه صنفك طائفيا وافترض انك ترفضين الكلمة من منطق طائفي، لأن هذه الكلمة تخص طائفة ولا تخص الاخرى، وهو حين ينطقها يتوقع ردا من قبيل “خادم مولاك”، وليس رفضا لها كما فعلت أنت لذلك فقد صنفك ضمن الطائفة الاخرى التي لاتستعمل هذه العبارة.
الى لحظة كتابة هذه الكلمات، وقد مر وقت طويل على الحادثة، لا زلت لا افهم كيف تهون نفس الانسان عليه ليقبل ان يحط من نفسه بحجة طائفية او اي شيء اخر؟، وكيف يقبل شاب في اول عنفوانه ان يكون خادما لاحد؟ ومن اوصل لهؤلاء الشباب ان الحط من قدر انفسهم امام الناس هو من الدين او من التواضع..؟ فتكت هذه الاسئلة بقلبي ولم يتوقف حزني مدة طويلة اسفا على اولادنا وهم يتلقون محق ذواتهم بهذه الطريقة ويتحولون الى مسوخ طائفية تستفزهم اصغر العبارات فتستنفر طاقاتهم للمهاجمة والاعتداء، وتتعطل قدراتهم على التفكير والفرز بين ماهو في صالحهم وما هو ضدهم.
وقد يبدو هذا المحق للذات ذا منشأ نفسي لكن لايبدو انه شخصي وانما هو ظاهرة نفسية تشمل جماعات من الناس تعيش في الظل وتمارس الخضوع ظاهريا واذلال الذات بما يمكن ان يوصف (بالمازوخية الاخلاقية) او المازوخية العامة، وهو نوع من تعذيب الذات ووتعريضها للتحقير والاهانة والتمتع بذلك رغم الشكوى الظاهرية، الا انهم يمارسونها بشكل قهري لانهم يعشقون دور المظلوم والمعذب والمقهور. وهو سلوك يوصف في علم النفس بهدم الذات (self-defeating behavior). وهو تعبير عن الانسحاق الذي يبلغ اقصى حدوده عند نكران الذات لصالح الاصطفاف لفكرة مذهبية او ايدلوجية ما.
ربما يكون هذا مرد تصرف ذلك الشاب وربما هناك تعليل غيره لا ادركه، لكني لا املك سوى التمسك باذيال امنية هي ان اعود الى العراق مرة اخرى وقد اشرقت شمس جيل جديد يكلل الكبرياء جبينه، ويغار على ذاته وانسانيته اولا وقبل اي شيء، ولعل الامل ليس بعيد.
“تجدر الاشارة الى أن ورق الجدران الذي اقتنيناه من المحل لم يكن ذا منشأ الماني رغم الأيمان الغليظة التي قدمها السيد صاحب المحل”.