كشف سقوط نظام بشار الأسد في سوريا عن خلل في رؤية الحكومة العراقية، وتخبط في حساباتها، وارتهان واضح لمشاريع خارجية لا تمت للمصلحة الوطنية بصلة. وقد أشار هذا الانهيار إلى قصر نظر وعدم وعي بالتداخل الجيوسياسي والثقافي والديموغرافي الذي ميز العلاقات بين البلدين على مر التاريخ.
وقد بدأ هذا التخبط منذ أن تحولت معسكرات اللاذقية إلى معاقل لتجنيد الإرهابيين، وإرسال السيارات المفخخة نحو العراق، وكذلك، من خلال الشكوى التي تقدمت بها بغداد ضد دمشق في عام 2009 على خلفية تورطها في تفجير وزارة الخارجية، ليأتي بعدها تصرف غير مألوف من الحكومة العراقية، حيث تم نسيان تلك الانتهاكات فجأة، وانحازت بالكامل إلى النظام السوري (السابق)، مغمضة العينين عن وجود جماعات مسلحة عراقية تدافع عن ذلك النظام منذ 2011، مع وضع كامل ثقل العراق السياسي في سلة ذلك النظام، دون حساب لمدى احتمالية سقوطه أو صعود المعارضة، ودون أن تلتفت إلى معاناة الشعب السوري. وقد أسفر ذلك عن فجوة كبيرة في العلاقات بين البلدين، حيث لم تُظهر الحكومة العراقية أي رغبة في التنسيق مع أي من فصائل المعارضة السورية أو حتى مع العشائر القريبة من الشريط الحدودي.
وقد تغاضت الحكومة العراقية عن الاختلاف الجوهري بين النظامين، سياسيا وأيديولوجيا، فبينما يعتمد النظام العراقي على دستور يضمن التعددية السياسية والحريات العامة والانتخابات والتداول السلمي للسلطة، كان النظام السوري يعتمد على حكم فردي شمولي يقتل المعارضين ويسجنهم في وضح النهار. ولو كان لدى الحكومة العراقية من الحكمة ما يكفي، لكان حريا بها أن ترحب بأي بديل لنظام الأسد، فمهما كانت صورته، سوف يقترب من بنية النظام العراقي، عوضا عن الانحياز لنظام استبدادي فاسد.
من أجل تجاوز هذا التراكم من الأخطاء، وطي صفحة الماضي، وتحقيق رؤية جديدة توازن بين مصالح العراق وسوريا، لا بد من أن تقوم الحكومة العراقية بخطوات ملموسة لضمان تعافي سوريا الجديدة وقطع أي مسار يؤدي إلى تعزيز الاعتماد على تجارة المخدرات، التي تشير التقديرات إلى أنها تشكل 50% من الناتج المحلي السوري. ولابد أن يتجاوز العراق البيانات الباردة التي تصدرها الحكومة، وأن تتحمل مسؤولياتها في بناء جسور الثقة مع الشعب السوري، وتقديم الدعم الذي يخفف من معاناته، عبر الخطوات التالية:
1. إرسال المساعدات الإنسانية العاجلة من مواد غذائية وطبية، وإنشاء جسر بري يربط العراق بسوريا، ليكون نقطة انطلاق للمساعدات القادمة من مدن العراق أو من الدول الشقيقة والصديقة.
2. إرسال فرق الدفاع المدني العراقية للمساعدة في إنقاذ الأرواح جراء الفوضى الناتجة عن التغيير السياسي، أو للتعاون في فتح سجون النظام، مثل سجن صيدنايا، وكشف ما كان يخفى خلف جدرانه.
3. تقديم الدعم في مجال الوقود والطاقة، مثلما يقدم العراق للبنان والأردن، ويُمكن تطوير الأمر إلى اتفاق لاحق لإحياء خط كركوك – بانياس لتوفير احتياجات الطاقة.
4. مبادرة سياسية عراقية شاملة لجمع الفرقاء السوريين في بغداد تحت مظلة الجوار العربي، والمساهمة في لملمة شتاتهم، كما يجب أن تشمل المبادرة جمع دول الجوار والدول المؤثرة في المنطقة، بغطاء عربي أيضا، من أجل تحجيم الدور التركي والإيراني، وعدم استفزاز الداخل المحلي والدول الخليجية (باستثناء قطر) التي قد تكون مستعدة للعب دور إيجابي في استقرار سوريا.
5. إعلان مبادرة اقتصادية تهدف إلى إنشاء صندوق لإعادة إعمار سوريا، يتم من خلاله جمع المنح العربية والدولية لإعادة بناء الاقتصاد السوري، والمساهمة في استقرار الدولة السورية.
تلك النقاط تمثل خارطة طريق واضحة من شأنها أن تعين بغداد على تجاوز أخطاء الماضي، وإعادة ربط سوريا الجديدة بمصالح العراق الاستراتيجية، وتحقيق التوازن في الدور الإقليمي للعراق الذي تراجع في السنوات الماضية، كما أن هذه الخطوات قد تساعد في تحييد المخاطر التي قد تنشأ من سوريا بعد سقوط نظام الأسد، وتؤسس لمرحلة جديدة من التعاون بين البلدين.