في الوقت الذي احتلت فيه الأخبار والأحداث الاقتصادية المختلفة موقعا ثابتا في الصحافة والقنوات الإخبارية العراقية، نجد أن البعض يقدم نفسه أو بمبادرة من وسائل الإعلام، ولاسيما القنوات الفضائية تحت عناوين رنانة لا تعبر عن التوصيف الحقيقي لحاملها، من أمثال “باحث اقتصادي”، بل يذهب البعض إلى أبعد من ذلك باستخدام عنوان أكبر، وهو “خبير اقتصادي”.
وعندما تتقصى عن أي واحد من هؤلاء تجد إما أنه لا يحمل مؤهلا علميا له علاقة بالعلوم الاقتصادية أصلا أو أنه يفتقر إلى الخبرة العملية المتراكمة والتي يمكن أن تعطيه المبرر لحمل مثل هكذا عناوين.
ومع مرور الوقت واستمرار الظهور على القنوات الإعلامية، نلاحظ ان الشخص من هؤلاء قد بدأ يتوسع في تحليلاتة ويخوض في مواضيع اقتصادية شائكة ليقدم لنا بالتالي قراءات واستنتاجات ليست مبنية على البحث والتقصي، وغير معززة بقدر من البيانات والمصادر الرصينة.
وبذلك يتم الضرب بعرض الحائط بحقيقة أن تطور العلوم عموما -والعلوم الاقتصادية ليست استثناءً- قد أدى إلى ظهور اختصاصات فرعية داخل تلك العلوم نفسها، مما يجعل من اي متخصص يقف عند حدود تخصصه في فرعين أو ثلاث من تلك الفروع العلمية.
ومع تكرار الظهور الاعلامي يتوهم البعض من هؤلاء الأشخاص بأن تلك الأوصاف تعبر عن حقيقة وليست ادعاءات، ويخلق في الوقت نفسه انطباعا زائفا عند جمهور المتلقين بأنهم كذلك، فيما اذا دققت في الحديث لوجدته يخرج من شخص لم يتقن مبادئ الصنعة اصلا، وفي أحسن الأحوال فهو يمتلك البعض من المعرفة الاقتصادية ليس إلا.
ولفهم مايحصل علينا أن ننظر الى المنصات الإعلامية التي توفر الساحة لهؤلاء، فنجد أن عددا من القنوات قد ساهمت في ذلك، سواء عن قصد او دون قصد، عبر تكريس وتداول هكذا القاب رنانة، لأن من يقوم بالإشراف على هكذا برامج نقاشية او إعداد النشرات الاخبارية وهو تحت ضغوط ومتطلبات البث اليومي واستمرارة، فأما لايمحص كثيرا عند تداول تلك المسميات او انة يستخدمها اعتقادا منة بأنها تشكل إضافة أو قيمة للمادة الإخبارية المقدمة في وسط تكاثر عدد القنوات والتنافس الحاصل بينها مع الرغبة في جذب أكبر عدد من المشاهدين. وعلى نطاق موازي نجد أن البرامج الاقتصادية المتخصصة لا تزال إما غائبة أو أن القائمين عليها ليسوا من أصحاب الاختصاص أصلا، وذلك يقلل بالتالي من قدر الفائدة المتحققة من المادة المقدمة ومايصاحبها من نقاش.
وبذلك فإننا أمام ظاهرة يكون الشخص فيها إما يمكن تصنيفه بأنه مهتم بمتابعة الشأن الاقتصادي ولاسيما إذا لم تمر سوى سنوات قليلة على البعض من حصولة على المؤهل العلمي أو لا يزال أصلا على مقاعد الدراسة، وعليه فمن الأفضل أن يقدم هؤلاء أنفسهم كمهتم بالشأن الاقتصادي وبذلك يتم – على أقل تقدير- تسمية الأمور بمسمياتها الصحيحة.
الحقيقة أن الأخذ بذلك يصب في صالح المنبر الإعلامي لكونه يضفي قدرا من المصداقية على عمله من جهة، ومن جهة أخرى يصب في فائدة المتلقي عندما يعرف من هو مصدر التحليل او التعقيب. والأهم من هذا وذاك هو توفر الجانب التوعوي الذي يقع على عاتق الوسيلة الإعلامية، والمتمثل في توضيح الحقائق وتقديم قراءة سليمة عبر تناول السبب والمسبب.
وهذا يقودنا أيضا الى ضرورة التمييز بين الشخص ذا الاهتمامات الاقتصادية والتي تتمثل في متابعة حدث ما او لديه رغبة بالاستثمار في سوق الأوراق المالية، او أن تجذبه الطرق المتاحة في عرض البيانات الاقتصادية وبين الباحث المتمرس الذي قضى سنوات طويلة في كتابة ونشر كتب وبحوث أصيلة، والتي مرت بدورها بالآليات المعروفة في نشر البحوث العلمية من مراجعة من مختصين واعادة كتابة لاجزاء منها حتى تصل إلى المرحلة النهائية أما بالقبول والنشر او قد تواجة بالرفض، وهذا ماحصل معي شخصيا أكثر من مرة، وهو امر طبيعي لا يقلل من قيمة البحث بقدر ما يضيف لة قدر من الرصانة.
وإن كنا نرصد هنا ظاهرة بعينها، فإن ذلك لا ينطبق بالطبع على عدد ليس بالقليل من الاقتصاديين المتمرسين، والذين يقدمون مساهمات رصينة بحيث جعلوا من ظهورهم على وسائل الإعلام المختلفة ذا فائدة عبر تقديم تحليلات مفيدة ذات علاقة باختصاصاتهم. ونحن بحاجة إلى أن نسمع أصوات المزيد من هؤلاء، الأمر الذي سيوفر فرصة لتعليم الأجيال من الشباب وطرح المعلومة السليمة للمشاهد او المستمع.