“نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَ قُبْحِ الزَّلَلِ..”.. علي ابن أبي طالب
ما من فئة اجتماعية إلّا وتسرب فيها ومنها الفساد والجهل. وخطباء المنبر هم الفئة الأكثر شعبية في المجتمع العراقي بشكل عام والشيعة بوجه خاص، فقد كان للانحطاط الاجتماعي على يد الخطباء حصة لا يستهان بها، وقد وصل إلى مستويات محيرة؛ خطيب يروي للناس أن علي ابن أبي طالب كان عمره ثلاثة أيام وهو يسمع صوت الوحي، وآخر “يفحم” مستمعيه على أن “اللطم” على الصدر يكثر من كريات الدم البيضاء!!، وكان هذا الخطيب الجاهل يصر على مستمعيه أنه سيأتيهم بالدليل العلمي الذي يؤيد هذه الحقيقة. وثالث يجزم أن الجماعات الغربية تكتب البحوث بخصوص الأمام جعفر الصادق.
وعلى هذا المنوال -الذي اختصرناه بثلاثة أمثلة- تشكل سلسلة طويلة من صبيان المنبر أمام مرأى ومسمع الجهات الدينية النافذة كما لو أن الأمر لا يعنيها، أو أنها متفرغة لقضايا الأمة الإسلامية ذات الأهمية القصوى، فلا تلتفت لهذه الهوامش!. ولعلهم يستقبلون هذه الخرافات والهذيانات بنوع من الرضا والقناعة مادام هؤلاء الخطباء يحققون حراكاً شعبياً ينطبع بالهوية الشيعية، وما عدا ذلك فلتذهب العقلانية إلى الجحيم. كيف عالج بعض طلبة الحوزة الدينية، الذين ينشطون على مواقع التواصل، هذه الظاهرة المخجلة؟ لقد واجهوها بمزيد من الهجوم على العَلمانية والليبرالية!. يمكن لهؤلاء أن يناقشوا عشرات المشاكل المتخيلة، لكنهم يصمتون، عن عمد وتخوّف، من نقد وتصويب هذه الظاهرة المؤسفة.
المشكلة أن ثقافة الشكوى والتذمر وردات الفعل هي من تتحكم بذهنية بعض المتدينين وطلبة الحوزة؛ لمجرد أن تفتح فمك للتنديد بهذه الظاهرة المشينة ستجد نفسك في سجل العلمانيين والليبراليين الرجيم. وبهذا يعمد أخوتنا باستخدام “استراتيجية” الضربات الاستباقية، لكي تتحول هذه الملاحظات النقدية إلى حرب شعواء ينتصر فيها من يجمع أكبر عدد ممكن من النقاط ضد الخصم الآخر. ثمّة عطاء خصب يتوزع في كتب التراث الديني: الأخلاقي، السياسي، الفلسفي، الكلامي، والصوفي، وإضافة لذلك الدراسات الدينية المعاصرة التي تصدرها المراكز المعنية بتجديد الخطاب الديني: كتب، دراسات، مجلات، صحف، ندوات، محاضرات متوفرة على اليوتيوب، شخصيات مجددة.. الخ.
يمكن الاهتداء بهذه السلسلة المذكورة بدلاً من الغرق في خطابات عقيمة لا أول لها ولا آخر. يغرق بعض طلبة الحوزة الدينية في مواقع التواصل الاجتماعي بمواضيع جانبية ويتركون ماهو أهم، وبدافع المجاملة لمتابعيهم يتكاسلون عن تنوير الناس خوفاً على سمعتهم!، لذا، ومن باب المجاملة للمتابعين، ينشغلون بتقويض العلمانية!، وربما لا يجدون أنفسهم مكلفين بالرد على جهلة الخطباء حفاظاً على “بيضة الإسلام”!.
لم تعد عبارة “هذا لا يمثل الإسلام” مقنعة، مثلما لم تعد عبارة “الديمقراطية وحقوق الإنسان” مقنعة في عالم يأكل بعضه بعضاً من دعاة الديمقراطية أنفسهم. على أي حال، إن هذه العبارات لا تجد أذناً صاغية مالم يُطرح البديل ويبرهن من هم المسلمون الحقيقيون من غيرهم هذا أولاً، وثانياً، ينبغي على الجهات المهتمة لأمر الدين -وليست المعتاشة عليه- أن تبدي موقفاً حازماً تجاه هؤلاء الخطباء الجهلة، ومن وجهة نظري- التي لا يقبلها أخوتي طلبة الحوزة حتى وإن كانت صحيحة – أن يستثمروا مواقع التواصل الاجتماعي ليعرفوا الناس بالشخصيات التي تساهم بتجديد الخطاب الديني، وإن لم يعترفوا بعبارة التجديد فليبحثوا في التراث الأخلاقي فهم معنيون فيه على نحو الوجوب، ربما، فالأخلاق ليست خطرة بخطورة خطاب التجديد!، لذا هي ليست مخيفة وتضمن لهم مكانتهم التي قد تتزلزل فيما لو ” انحرفوا” عن الخطوط العريضة.
هذه الأنشطة مفيدة ومثمرة، بدلاً من الركض خلف العلمانية والليبرالية، فخطباء المنبر هؤلاء، والذين يتكاثرون بشكل انشطاري عجيب، أخطر من أي عدو مُتخَيَّل، إنهم يسهمون بشكل كبير في عملية الانسداد، فحذارِ من سبات العقل الذي تعوّذ منه علي ابن أبي طالب!.