لقد كتبت في مقال الأسبوع الماضي الذي استبقت فيه خطبة الجمعة (20-7-2018) أن الجماهير العراقية المتظاهرة تنتظر موقفا واضحا من المرجعية في نقطتين، وأن تلك الخطبة ستكون أقل من توقعاتهم إن أهملت الإشارة لهما. والنقطتان هما: (الأولى) تتعلق بدعم المتظاهرين والاصطفاف إلى جانبهم في مقابل موجة الاتهامات الواسعة بالتخوين والانحراف والتآمر. و(الثانية) تتعلق بالدعوة إلى التعديل الدستوري والانتخابي والسياسي.
لقد قيل في تلك الخطبة ما قيل، وصدق تحليلنا لحجم ونوع توقعات المتظاهرين، وهو ما عبرت عنه المواقف الغاضبة للعديد منهم في الشارع والمحافل والمنتديات العامة والخاصة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. فبحسب مراقبين كثيرين أن خطبة الجمعة تلك، والتي اعتاد الناس فيها على سماع الرسائل السياسية التي دأبت المرجعية على إعلانها أسبوعيا، لم تكن مخرجاتها بحجم توقعات المتظاهرين. وأن شريحة واسعة منهم شعرت أن الخطبة المذكورة لم تظهر الدعم الكافي لهم، وأنها لم تدن حالات القمع التي حصلت واتُهمت بالتورط فيها أطراف عديدة، حكومية وحزبية. بل إن بعض المتظاهرين فسر ما جاء في الخطبة بأنه يمثل شكلاً من أشكال تنصل المرجعية عن مواقفها السابقة التي اصطفت فيها مع مساعي الجماهير الرامية إلى الاصلاح والتغيير. وهكذا، وعلى مدار الأيام السبع التي تلت تلك الخطبة، ووسائل التواصل الاجتماعي ملتهبة بتعليقات ساخطة لا تخلو من اللوعة وخيبة الأمل والنقد العنيف للمرجعية بكونها تتحمل جزءا من المسؤولية عما آلت إليه أوضاع البلاد المتأزمة.
ومهما يكن فالذي يظهر أن زخم هذه المظاهرات وما رافقها – وما يزال – من غضب عارم على الطبقة السياسة في البلد، بدأ يلقي بظلاله على خطاب المرجعية الدينية نفسها، وهذا ما نلاحظه في خطبتها لهذا الأسبوع (27-7-2018).
ويلاحظ أن من أهم ما ورد في هذه الخطبة ما يأتي:
أولا: أن المرجعية الدينية تتفق مع الجماهير في تحميل كبار المسؤولين في الحكومة وزعماء القوى السياسية ما آلت إليه البلاد من مشاكل وأزمات وفشل في الإدارة وانعدام للعدالة وحماية للفاسدين.
ثانيا: أن المراهنة على تراجع المتظاهرين عن مطالبهم عبارة عن وهم كبير، بل إن المتوقع هو تنامي تلك المطالبات في المستقبل، وعودتها في وقت آخر بنحو أقوى وأوسع من ذلك بكثير.
ثالثا: إن إخفاق الجهات المسؤولة عن إصلاح الوضع الحالي (الحكومة ومجلس النواب والسلطة القضائية) سيدفع الشعب نحو (تطوير أساليبه الاحتجاجية السلمية لفرض ارادته) على المسؤولين.
يلاحظ أن المرجعية بدت واقفة في الوسط من الاعتداءات والصدمات الحاصلة بين المتظاهرين والقوات الأمنية، فقد رفضت وأدانت معا الاعتداءات الحاصلة على المتظاهرين، أو تلك الحاصلة من المتظاهرين تجاه القوات الأمنية. وهي وإن بدت غير واثقة من قدرة الحكومة الحالية على معالجة الأزمات الحالية واكتفت بحثِّها على تحقيق ما يمكن تحقيقه أو التخفيف من معاناة الناس، إلا أنها رسمت خطوطا عامة للحكومة الجديدة المنتظرة، داعية إلى الإسراع في تشكيلها. إن هذه الخطوط العامة – وكما يعرف الجميع – ليست جديدة، وهو معروفة لدى القوى السياسية كافة، والكل يرددها ويتغنى بها. لذا فإنها لا تبدو لي ذات تأثير كبير. إنما فاجأني ما ورد في الخطبة من القول إن المرجعية نصحت المواطنين بأن الإصلاح والتغيير لن يتحقق إلا على أيديهم، وبنحو صحيح، وأن المشاركة الواعية في الانتخابات هي الآلية المثلى لتحقيق ذلك. وسبب تفاجئي هو:
1/ أن المرجعية تعلم أن المواطنين عاجزون عن الإصلاح والتغيير في ظل هيمنة ذات الأحزاب السياسية المسيطرة منذ 2003، والتي حصلت على دعم المرجعية منذذاك. فهل حديثها إلى المواطنين بما يشبه تحميلهم المسؤولية هو تلويح منها لهم بنفاد صلاحية هذه الأحزاب السياسية بعد إخفاقها مرة بعد مرة، ودعوة لهم لإعادة النظرة في الحياة السياسية العراقية من أجل بناء تنظيمات حزبية جديدة؟
2/ ثم أن المرجعية نفسها صرحت في خطبة سابقة لها وقبل الانتخابات بفترة وجيزة بأن أمر الإنتخاب من عدمه متروك لقرار المواطنين أنفسهم، والذي يعني أن خيار المشاركة لم يكن هو الآلية المثالى دائما. فهل حديثها الجديد هذا يمثل تراجعا منها عما قالته سابقا عن موضوع تخيير المواطنين في المشاركة في الانتخابات؟
قد لا تكتسب النقطة الثانية نفس الأهمية بالقياس إلى النقطة الأولى، ولكن من المرجح أن الناس سيطرحون السؤالين معا، وسيطالبون بوضوح أكثر في الخطاب المرجعي أقل ترميزا ودبلوماسية مما هو عليه الآن.
إنني لا أفتأ أشير أن علينا كعراقيين أن نبلغ مرحلة الفطام، بمعنى أن نزاول السياسة والحكم والإدارة بمحض إرادتنا الحرة وحاجاتنا الوطنية وقدراتنا البشرية في العلم والمعرفة، وإنني أرى أن المرجعية الدينية المعاصرة، والمتمثلة بسماحة السيد السيستاني (دام ظله)، تتبنى أيضا هذا الرأي أو جزءا كبيرا منه، لأنها تؤمن بولاية الأمة على نفسها وعدم حاجتها في السياسات والإدارات إلى وجود “فقيه” ولي عليها. ولكن هذا ليس ما يفهمه العراقيون، ولا ما تعودوا عليه، ولذا فإنني أجد أن أفضل قرار من الممكن أن تتخذه المرجعية في هذا الشأن هو أن تصرح بذلك بنحو أكبر مما سبق حتى الآن، لأن هذا هو السبيل الوحيد، والحصري، الذي سيقود هذا المجتمع لتطبيق ما تتحدث عنه المرجعية من النصيحة والآليات المثلى وتحمل المسؤولية. قد يشكل هذا التصريح أمرا لا سابقة له في الحياة السياسية العراقية “الشيعية” التي عرفناها منذ قرن كامل، ولكني أحسبه بدل ذلك، وفوق ذلك، الموقف الأكثر تطورا في هذا المشهد السياسي الحزين الذي بلغ المئة عام ومازال مراهقا ومتخبطا.
هل ستأخذ الأمور هذا المسار المتوقع والمنتظر؟ لنراقب ونرَ!