دروس خصوصية!

في العام 1987 كنت طالبا في الصف السادس الاعدادي القسم العلمي وكنت حريصا ان اخرج بمعدل عالي يؤهلني لدخول احدى الكليات المتقدمة، طلبت من والدي ان يرجو صديقه المقرب واستاذي في اللغة الانكليزية في المدرسة بان يعطيني دروسا خصوصية رغم ان الطلب غير وارد في حينها لرصانة التدريس في المدارس وحرص التدريسي على مستوى طلابه لانه ينعكس بالنتيجة على سمعته التي لا يمكن المساومة عليها، وبعد الحاح وتوسل اذعن والدي لطلبي وترجى استاذي الكبير ان يعطيني دروسا خصوصية في اللغة الانكليزية ، في اليوم التالي ارسل الاستاذ في طلبي ووبخني توبيخ الأب الحريص على ابنه وقال لي بالنص “ألا تخجل من نفسك وانت المتفوق ان تطلب دروسا خصوصية؟ اذهب واعتمد على نفسك وعلى الدروس التي تأخذها في المدرسة”، وبالفعل اعتمدت على نفسي وحصلت على ما أريد..

لم تكن الدروس الخصوصية شائعة في حينها باستثناء بعض المواد الصعبة كاللغة الانكليزية وللصفوف الاعدادية المنتهية فقط وكانت هناك دورات اسبوعية تقيمها بعض المدارس المتميزة مجانا في عطل نهاية الاسبوع لدعم طلبتها واخراجهم من هاجس الخوف الذي يرافق الطالب في امتحان البكالوريا والحصول على معدلات عالية ترفع اسم المدرسة في التصنيف السنوي.

بعد العام 1991 وبعد انهيار الوضع الاقتصادي بسبب الحصار الجائر على العراق توجه بعض الاساتذة للتدريس الخصوصي لدعم وضعهم المادي خصوصا وان الراتب الشهري صار لا يساوي ثمن طبقة بيض!! لكن ومع ذلك بقي التدريس محصورا على طلبة المراحل المنتهية للمتوسطة والاعدادية فقط.

بدخول الدبابات الامريكية المحملة بجهابذة السياسة التي حكمت العراق بعد سقوطه عام 2003 صار العلم “لا يكيل بالبيتنجان الاسود” على قول الفنان عادل امام بل صار السلعة المبتذلة التي لا ثمن لها ، فتساوى من ابيضت عيناه بالدراسة وفي أسوأ الظروف من ارهاب وضيق الحال وانعدام الخدمات مع الفاشلين من النائمين للظهر الذين نجحوا “بالدفرات”، وبمعدلات خمسينية حصلوا عليها بالغش وشراء ذمم المراقبين وترهيب السلاح.

لم يكتف الطلبة الفاشلين المنعمين بخير العراق بأن يدخلوا معاهد عراقية تتناسب مع معدلاتهم انما ارسلهم ابائهم من حديثي النعمة الى اوكرانيا وبيلاروسيا ورومانيا وغيرها لدراسة الطب والصيدلة وطب الاسنان ليقضوا عامهم الدراسي ليس في اروقة الجامعات انما في احضان الشقراوات محملين بحقائب الدولارات التي تشتري الجامعة بأكملها وليس الشهادة فقط ليعودوا بعد عام غير دراسي حافل بالمغامرات الجنسية في ملاهي واوكار دعارة تلك الدول وبقرار حكيم من مجلس الوزراء تحت عنوان (تشجيع عودة الكفاءات المهاجرة) ليدمجوا مع زملائهم في كليات الطب العراقية وفي المرحلة الثانية مباشرة ويستمروا بفشلهم لكنهم بالنتيجة صاروا اطباء وصيادلة واطباء اسنان بفضل القرارات الحكيمة التي يصدرها وزراء التعليم العالي بمباركة مجلس الوزراء وضغط البرلمان تحت عناوين “الدور الثالث والرابع والتحميل وعودة المرقنة قيودهم والمهجرين و…”، واتحدى من يخالف هذا الكلام لأنني عشته حين كنت استاذا في كلية الطب في العراق.

وصل الحال اليوم بالتعليم في العراق ان الدروس الخصوصية صارت تشمل جميع الصفوف والمراحل بدأ من الصف الاول الابتدائي وحتى انتهاء الدراسة الجامعية العليا في الوقت الذي وصل فيه راتب المعلم والمدرس الى مستويات لم يحلم بها يوما علما ان النتيجة المخيبة للامال هي ان الطالب الجامعي وبرغم التدريس الخصوصي الذي تلقاه منذ الصف الاول الابتدائي لا يستطيع كتابة جمله مفيدة دون ان تكون محملة بالاخطاء الاملائية واللغوية والمشكلة ليست في المعلم او الطالب انما المشكلة فيمن يهيمن على وزارات التربية والتعليم العالي ممن اصبح مليارديرا بطباعة الكتب ومقاولات بناء المدارس وتجهيزها بالاثاث والمستلزمات الاخرى والسيطرة على كل تفاصيل العملية التعليمية عبر شركات وهمية وقومسيونات فلكية تحميها جهات سياسية واسلحة منفلتة يتوجها انعدام تطبيق القانون كليا، فصار العلم ارخص السلع واكثرها ابتذالا لا سيما وان “من يجد لا يجد ومن يزرع لا يحصد”، كما كنا نتعلم انما يجد ما يريد من لديه واسطة ويحصد من خلالها اعلى المناصب من له ظهر قوي في الدولة وبالنتيجة فأنك تجد المتفوق الذي تخرج مهندسا او حقوقيا او يحمل شهادة عليا في اللغات الاجنبية الحيه او الفنون الجميلة او غيرها يدفع عربة حمل في اسواق الشورجة او عتالا في مخزن او عامل بناء يقضي النهار على رصيف العمال بانتظار من يطلبه في عمل او يبيع “الحاجة بربع” على ارصفة الشوارع او عاطلا لا يجد ثمن المواصلات العامة، في حين تجد من حصل على امتيازات الزمن الجديد تحت مسميات شتى ومن له علاقات بالاحزاب الحاكمة ورموز السلطة ومن ابناء سارقي المال العام ومن هب ودب خلف مناصب عليا تحميهم المصفحات وتخدمهم المئات وتستقبلهم المطارات بجوازاتهم الخاصة وتفتح لهم صالات الشرف ولديهم ارصدة بملايين الدولارات.

لا أعلم لماذا يتعب الاعلام نفسه باعداد عشرات التحقيقات الاعلامية عن واقع المدارس العراقية وعن واقع التعليم ولا اعلم لماذا يقحم البرلمان نفسه باستجواب وزراء التربية في كل دورة عن سوء الوضع التعليمي وانعدام ابسط شروط التعليم ولا اعلم لماذا تضع وزارة التربية انفها في العملية التعليمية البائسة وما المبرر لوجود وزارة تربية اصلا ان كان التدريس الخصوصي سيد الموقف؟! 

رحم الله الفنان حسن مصطفى حين قال في مسرحية مدرسة المشاغبين “أنا عاوز ادي دروس خصوصية” عندما اعجبته فكرة الدروس الخصوصية التي كان يقدمها الراحل سعيد صالح على طريقته الخاصة!!

أقرأ أيضا