صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

دولة الهوية ونتائج الاستبداد

في ظل الانومي (فقدان المعايير/ دوركهايم) الذي نعيش فيه منذ سقوط النظام السابق، وتصدع القيم العراقية الاصيلة، التي تؤكد على حسن الجوار، والغيرة، والحس الوطني. طفحت على السطح بدلاً من ذلك قيم سفسطائية – ان جاز التعبير- تشير مرة الى أن المال هو مقياس لكل شيء، ومرة اخرى الى أن الطائفة أو القومية هما مقياسان للوطنية. ولو أننا استدعينا الحكيم(سقراط) في هذا المشهد الضبابي، لإزالة اللبس والغموض، أكنا نصل الى قواعد سليمة ثابتة يمكننا البناء عليها، وسط فوضى المفاهيم المضللة..؟.

كيف لنا أن نفهم احتكار هوية ما وطناً كالعراق!؟. والكثير من الكتابات السياسية تذكّرنا كيف استولى “السنة” على الحكم في العراق، وتفردوا به لأكثر من ثلاثين عاماً، وكان “الشيعة والكرد” في مظلومية تحت سلطة هذا النظام، -الذي بدا لهم سنياً وليس علمانيا-، ثم انقلاب الامر بعد ذلك في العام 2003، عندما تحول المظلومون الى ظالمين، وقاموا بإقصاء السنة عن المشهد السياسي، وللدقة أكثر نقول انهم ارتضوا لأنفسهم الانكفاء وحمل السلاح.

وربما استغربنا انفجار الموقف بين الحليفين (الشيعي والكردي)، وزعم الكرد أنه ظلما كبيرا قد طالهم أيضاً بسبب سياسات المركز (بغداد)!، فكيف لـ(سقراط) ان يوضح لنا مفردتي “المظلومية” و”الفيدرالية” بعراق اتحادي، عاشوه أربعة عشر عاماً، منذ تغيير النظام، والى اليوم (2003- 2017) عقب تجربتهم الرائدة في الحكم الذاتي (1974- 2003)؟ وهل تصح الكلام بأننا وصلنا الى أن هويتين قد تم إقصاؤهما مقابل هيمنة لهوية واحدة. أم نقول مع الاستاذ (حسن العلوي)، أن علينا أن نفرق بين شيعة السلطة وشيعة العراق، وسنة السلطة وسنة العراق؟. هذا يتطلب التريث قبل اطلاق الاحكام النهائية؛ لان الازمة أعمق من ذلك. فقد برزت الخلافات جهاراً هذه المرة أمام الرأي العام، والتخاصم بالدستور العراقي الذي كتب بأيديهم في العام 2005، ولكنه لم يجمع الشمل، على مبدأ الديمقراطية التوافقية (المحاصصة)، بل ربما صارت المشكلات أكثر تجذراً من ذي قبل؛ كونها نزلت الى المستوى الشعبي.

وبينما يقيء قلمي حبراً على الورقة، مصاباً بالدوار من جراء اشتباك الازمات، تذكرت ماكتبه الاستاذ (رعد اطياف) بتأريخ 6-10-2017 من على حسابه الشخصي (الفيس بوك)، من أن بعضنا يتخذ من الكتابة كمتنفس يفرغ من خلالها آلامه الذهنية والنفسية، والبعض الاخر يتخذها لتنوير الرأي العام، والبعض الاخر يعتاش منها كمصدر وحيد لرزقه. وهو بعد ذلك يقلل من شأن الكتابة ” كقوة ناعمة” لا تأثر كبيرا لها في تغيير الواقع، ويردف بالقول: أن الامر بحاجة الى قوة تأثير اكبر، ويعزوها الى القوة الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية (قوى صلبة) والتي تأتي – بحسب اعتقاده –  في السلم الاول.

وعلى ما تم ذكره انفاً تساس أمورنا في الغالب الى نتائج كارثية!، وقد وصلنا الى “الانسداد التأريخي” (هاشم صالح)، فلا غرو والحالة هذه أن يأتي جمع من الكتاب مختلفي المآرب ليبرروا أو يلوموا هذه القوة عقب كل دمار، ليحل السجال الذي لن يرجع الدماء الى ضحاياها، ولا الاموال الى خزائنها، ولن تجد مياهً تعود لمجاريها. وقد حصد بلدنا بعد كل هذا على مؤشرات سلبية بالفساد، وضياع الموارد، وانحدار التعليم، والتفكك الاسري والاجتماعي.. ما أضعف لدينا القوى الثلاث: الاقتصادية، السياسية، والعسكرية. واستنزفت طاقات الشباب بالحروب أو الهجرة. وبحكم هذه العوامل الفاعلة اعلاه، هل بقيت “القوة الصلبة” كما هي في قوتها، كما هو شأن الكتابة في ضعفها..؟ إن موضوعاً بهذا الحجم يسير وفق معادلة عكسية، يشير الى أن الكتابة الناقدة الحرة، لابد أن يرتفع رصيدها بعد فشل القوى الثلاث انفة الذكر. ولكن هل نحسب أنفسنا ممن يكتب لتنوير الرأي العام مادمنا لسنا ممن يعتاش على الكتابة؟، تبقى الاجابة عند القارئ الحصيف.

لنسأل الاتي: هل الشيعي هو مواطن وطني أم مذهبي في الدول التي يعيش فيها؟ وذات السؤال بالنسبة الى السني. وهل الكردي هو مواطن وطني أم قومي في الدول التي يعيش فيها؟. هذه الاشكالية ترينا أن البعد المذهبي والقومي وقت الازمات يطغيان على البعد الوطني. فمثلا هبت بعض دول الخليج لدعم الجيش السوري الحر، وبعض الفصائل من أجل اسقاط النظام السوري (بشار الاسد)، والذي ينتمي الى الاقلية العلوية، -غاضين الطرف عن علمانية هذا النظام-. وقاموا وقتذاك بإدخال درع الجزيرة الى البحرين، ليدعموا نظام الاقلية السني، على حساب الشعب البحريني. كما ان التباكي على سنة الاحواز، أنساهم ذكر شيعة الاحساء والقطيف في المنطقة الشرقية للسعودية، ثم بدلاً من أن يلبي كل طرف حاجات مواطنيه، صار التنكيل هو سيد الموقف، والمطالبة من الاخر أن يعدل مع شعبه أو أن يتدخل هو كطرف مناصر لمن يعاني الظلم، وهذا ما حدث فعلاً، فلو عاملت هذه الانظمة مواطنيها بطريقة وطنية قانونية تكفل لهم المواطنة، لرأينا نتائج مختلفة، ولما وجدنا التدخل الايراني في الشؤون السورية، والسعودية، والعراقية..، ولا التدخل السعودي في الشؤون الايرانية، والعراقية..، ولكانت كل من لبنان والكويت في حصانة تامة.

وقد باتت التداعيات الطائفية معروفة لسكان الشرق الاوسط، فضلا عن العالم. أما المسألة القومية للكرد فالحديث فيها ربما لا ينتهي، ومن أجل القاء الضوء قليلاً على كرد العراق، نقول أن الفجوة المجتمعية لا تقف عند حقبة النصف قرن الماضية، بل هي ابعد من ذلك. فقد ذكر الاستاذ (د.عادل البلداوي) في كتابه* ان نسبة المؤلفين للمناهج المدرسية منذ العام 1921 (تأسيس الدولة العراقية الحديثة) وحتى السنتين الاوليتين من الحرب العالمية الثانية[1941] ، كانت تؤكد ان هؤلاء المؤلفين كانوا يحملون ميولا قومية عروبية، وأن المناهج الدراسية ولا سيما مناهج المواد التأريخية كانت تسير سيراً قومياً. وأكد على حقيقة تأريخية في موضع آخر، الى أن نسبة النخب الكردية في التأليف معدومة تماماً؛ وهذا ما ترك آثاراً خطيرة على تأزم القضية الكردية، أو بالأحرى ترك تراكماً عند الاجيال على مر السنين، من أن الكرد ليس لهم قضية مشروعة، بل أنهم عصابات ولصوص وقطاع طرق. ورغم رصانة المناهج في العهد الجمهوري (1958-1968)- وذلك بتغير المؤلفين- إلا أن الطابع السياسي قد طغى نوعاً ما في هذه المرة .

وفي ما تقدم نجد أن الصفقات السياسية التي اجراها الشيعة، والكرد، والسنة عبر السنين التي خلت، قد اوصلت البلد الى ما وصلنا اليه؛ واستعصت القضايا الطائفية و القومية على الحل، فلم تكن هناك مصلحة وطنية بقدر المصالح الحزبية والقومية الضيقة، تخللها عامل الطائفية المقيت. ان جيل العقد الثالث ومنتصف الرابع من ابناء كردستان اليوم، لا يفقهون اللغة العربية إلا قلة منهم، وذات الامر مع العرب في اللغة الكردية، فوصلنا بذلك الى انقطاع التواصل الثقافي، والتأريخي، والحياتي، على الرغم من ان اللغة الكردية رسمية، ومنصوص عليها بالدستور العراقي.

إن تشظي الهويات اليوم، وانقسامها على نفسها هو مؤشر جديد وواضح لفشل الجميع، فليس جميع الكرد “مسعوديين”، ولا جماهير الشيعة “مالكيين”، ولا كل السنة “ارهابيين”. كما ان بلدنا فيه ايضاً مسيحيين، وقوميات واديان اخرى، ينبغي ان يسعهم العراق. لاننا لازلنا ندور في حلقة مفرغة، فتهمة الخيانة التي وصم بها اليوم 16-10-2017 جناح طلباني؛ لانه ساند الجيش العراقي في بسط السيطرة على مناطق في كركوك، شبيهة بما نعت به البرزانيين من قبل، وعلى رأسهم (مسعود برزاني) يوم استعان بـ(صدام حسين) عام 1996 وطرد الطلبانيين من عقر داره اربيل. وقد كتبت فيما سبق عن: الاغتيالات وتداعيات اخرى، وذكرت كثير من التحديات الواجب علاجها، وبجملة واحدة نحن بحاجة الى هوية وطنية للدولة العراقية، تبني على اساسها إستراتيجية طويلة الأمد للخروج من الدوائر المغلقة، فمن الخطورة بمكان ان نجد إستراتيجيات اقتصادية تتوجه نحو السوق، دون وجود هوية وطنية تحفظ لنا وطننا من التمزيق المستمر. فإن كنا نريد العيش في سلم اهلي، فلابد أن تكون الوطنية قبل المذهبية والقومية، نعم الوطن.. الذي قال عنه احدهم أنه المكان الذي تحفظ فيه كرامتي، ويكون فيه معاشي.

—————————————————————————————————-

*تأليف المناهج الدراسية في العراق في فكر النخب المثقفة 1921-1968 مادة التأريخ انموذجاً. ص119-127، بغداد،2012.

أقرأ أيضا