حقوق الفقراء في العراق كانت ومازالت منهوبة من قبل الدولة منذ تأسيسها عام 1921 وتتحمل جميع الحكومات والانظمة التي توالت على كرسي السلطة تبعات هذه المسؤولية دون استثناء وبدرجات نسبية متفاوتة.
والمقصود بالفقراء جميع الأيدي العاملة بالاجرة اليومية من الكَسبة الذين لايرتبطون مع الدولة بعقد عمل رسمي يترتب بموجبه التزامات وحقوق يجب ان تؤديها لهم، كالتعليم والسكن والضمان الصحي وانتهاء بالراتب التقاعدي ،وحتى العاطلين عن العمل يتوجب على الدولة ان توفر لهم اعانات تضمن لهم على الاقل العيش بحدود الكفاف.
كل هؤلاء لاقيمة تذكر لحياتهم ووجودهم وكأنهم موتى في ذاكرة المشرّع العراقي وفي حسابات الأحزاب السياسية كافة،وعلى مايبدو فان حقوق المواطنة في عقلية المشرّع العراقي بقيت محصورة ومقتصرة على العاملين ضمن قطاع الدولة ومؤسساتها خاصة بعد العام 2003مع ان العاملين في القطاع العام باتوا يشكلون عبئا ثقيلا على ميزانية الدولة، حيث افاد الخبير في الشؤون الاقتصادية باسم جميل انطوان إن “أعداد الموظفين العراقيين بحجمها الحالي لا تشكل أهمية تنموية أو اقتصادية للدولة العراقية، لأن نحو 70% منهم فائضون عن الحاجة”، كما بيّن مسح ميداني سبق ان اجراه معهد الأصلاح الاقتصادي في العام 2017 أن “عمل هؤلاء الحقيقي يكون من 10 الى 20 دقيقة خلال7 ساعات عمل رسمية” ،بمعنى انهم لايقدمون من الانتاج مايتناسب مع عدد الساعات المخصصة للعمل .وما يلفت الانتباه ان عدد الموظفين قد تضاعف بشكل كبير جدا خلال الاعوام التي اعقبت الاحتلال الاميركي للعراق إذ تشير التقديرات الرسمية حسب احصاء وزارة التخطيط العراقية ان عدد الموظفين قبل العام 2003 يصل بحدود 750 الف بينما تجاوز عددهم اليوم 6 ملايين!!
ان منظومة الدولة العراقية القيمية قد فرّطت بحق عمال الأجرة اليومية والحرفيين واصحاب المهن الحرة، رغم اهميتهم الحيوية في ديمومة الحياة الاقتصادية، بينما تسبب من كان فائضا من الموظفين العموميين بخسائر كبيرة وصلت الى مليارات الدولارات منذ العام 2004 حسب تأكيد نائب مدير معهد الأصلاح الاقتصادي رحيم ابو رغيف لاحدى الوكالات، بمعنى ان العراقيين يعيشون في ظل دولة لم تنصف مواطنيها من العمال والكسبة هذا إن لم ترتكب جرما بحقهم،وأن منظومتها بهذا الخصوص تتطابق تماما مع مايرتكبه الساسة والبرلمانيون وقادة الاحزاب من عمليات هدر للمال العام ونهب للثروات.
لن تقوم قائمة للدولة العراقية مالم تتحقق فيها ابسط صور العدالة الانسانية، وذلك بان تضمن العيش الكريم للعمال والكسبة الفقراء والعاطلين عن العمل الذين يشكلون أغلبية سكان العراق قبل التفكير في دعم تلك الاجندة التي تدعو الى حماية المعتقد الديني وحقوق الاقليات التي اوكلت عملية الترويج لها الى منظمات وباحثين لا يشغلهم الدفاع عن العدالة الاجتماعية لكافة المواطنين بقدر انشغالهم بمسالة دعم الاديان والمذاهب والجماعات الاثنية بحجة الدفاع عن حرية التعبير والمعتقد الديني والهوية الاثنية،والاهداف البعيدة لهذا المسار يلتقي شكلا ومضمونا مع المشاريع التي سبق ان طرحت في النصف الثاني من سبعينات القرن القرن الماضي من قبل عدد من الاسماء المؤثرة في رسم ستراتيجية اميركا والغرب ولعل ابرزهم المفكر البريطاني الاميركي الجنسية هنري برنارد لويس.
الاشكالية المزمنة في دولة العراق الحديثة التأسيس تكمن في تشرذم مفهوم المواطنة وتفاقمم تداعياتها بشكل خطير بعد العام 2003 نتيجتها كانت ان تفتحت جروح مجتمعية عميقة أفرزت قيحا طائفيا وعنصرياً بات يهدد وجود ومستقبل الوطن العراقي الواحد، بالتالي سيؤدي استمراره الى تمزيق الهوية العراقية الجامعة لصالح انتماءات متعددة لها اسماء وعناوين اخذت تتخندق خلف سواتر دينية ومذهبية وقومية حتى انها تحولت الى هويات بديلة عن الهوية العراقية،فأمست بمثابة سموم تفتك بكل ماهو جميل ومشترك بين العراقيين.
كان من المنطقي نتيجة ذلك ان يتحول البلد الواحد الى بلدان والدولة الى دويلات والوطن الى اوطان في عقول تم ادلجتها مِن قبل احزاب ومنظمات مجتمع مدني عزفت على وتر هوياتٍ فرعيةٍ أخذ اتباعها يعتاشون على تاريخ خاص بعد ان سلخوه عن سياق التاريخ الوطني العام واغلَقَوا الابواب على أنفسهم بمفاتيح الدين او المذهب او القومية، فأصبح الجميع كما لو انهم عميان وطرشان، لايبصرون إلاّ انفسهم ولايسمعون إلاّ صوتهم.
إن فكرة الآخر المختلف عن الآخر داخل الوطن الواحد لم تأخذ بعدها الثقافي في عراق مابعد العام 2003 بما يحافظ على فكرة تنوع الروافد التي تغذي الهوية الوطنية، انما خضع فيها الثقافي الى ماهو سياسي بالشكل الذي لم يعد له حضور امام هرطقة الايدولوجيا السياسية وهيمنتها،فكانت النتيجة ان افرغته من محتواه الواقعي والانساني،وحتى البعد التاريخي في ما هو ثقافي تم توظيفه لصالح ماهو سياسي. هذا التشظي في الشخصية العراقية كان نتيجة طبيعية لعدم شيوع العدالة الاجتماعية في شريعة الدولة وقوانيها وفي خطاب الاحزاب والقوى السياسية.
الانسان بطبيعته ينتمي الى من ينصفه ويمنحه الاطمئنان والعدالة ولعل حقه بالعيش الكريم يأتي في اولوية تطلعاته، فإذا ماوجد ان الدولة قد اشاحت بوجهها عنه وسدّت كل ابواب الرزق والامان والاطمئنان امام مستقبله ومستقبل عائلته انذاك سيكون من الطبيعي ان يلجأ عوام الفقراء الى ايّة قوة تمنحهم الأمل لنيل حقوقهم، ولن يترددوا ازاء ذلك في التخلي عن انتمائهم للدولة لصالح انتماءات اخرى حتى لو كانوا من فصيلة الشياطين،فما بالك لو كان لهؤلاء الشياطين من يلقنهم دروسا ممنهجة واكاديمية في كيفية الاصطياد بالماء العكر ويغدق عليهم الدعم المادي والاعلامي.