دولة رئيس الوزراء.. أين مكمن الخطر؟

خمسة وثلاثون عاما عاشها الشعب العراقي بين الأعوام 1968 وحتى 2003 تحت وطأة رعب مجموعة أشقياء من أولاد الشوارع والساقطين أخلاقيا ومن سقط المتاع الذين إرتدوا الزي العسكري المتشح باللون “الزيتوني” وكان عددهم يوم وصلوا إلى السلطة (243) عنصراً بين مدني وعسكري، أسكتوا العراقيين جميعا، بإذاعة ما يسمى “البيان الأول” وهيمنوا على العملية الإعلامية ومنعوا الإعلام خارج أطر سلطة الدولة وسلطة الحزب الفاشي الحاكم، وحسمت الدولة بحساب البلدان الشمولية كي تبعد عن نهجها النزعة الفاشية، وتنسي بعض من كان قابلا للنسيان دموية الثامن من شباط عام 1963.

عندما سقطت الدولة العراقية الفاشية من قبل قوى عالمية جمعتها المصلحة السياسية في العام 2003 مستهدفة الهيمنة على مصادر الثروات في العراق من البترول والكبريت والزئبق الأحمر، لتحريك تركز وتمركز رأس المال في مجموعة المصارف الأمريكية والأوربية، وبعد أن عجزت ما سميت المعارضة العراقية من إسقاط النظام، تقرر دولياً تخريب نظام شكل الدولة العراقية بواسطة أخطر وسائل التهديم المتمثلة بالعملية الإعلامية لإحلال نظام الدويلات العرقية والطائفية والعشائرية والمليشياوية بديلا عن الدولة وبنائها مكانا على الخارطة الجغرافية، وهذا ما حصل من خلال نظام الإعلام المحسوب في عشوائيته القائمة على خلط الأوراق بطريقة منظمة واعية. لا أحد يدرك مخاطر الإعلام “الأمنية والفيزيائية” إضافة إلى المخاطر السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية والسيكولوجية. فالمخاطر الأمنية تتمثل في التنصت عبر وسائل الإستقبال والبث، والمخاطر الفيزيائية تتمثل في علاقة الصورة بالعين فيزيائيا “الصورة الواحدة تبقى فيزيائيا في العين أقل من عشر الثانية” وانعكاس ذلك على السلوك الاجتماعي والسيكولوجي والإخلاقي. فيتحول المجتمع لمجتمع هجين الملامح، يلعب الإعلام أدواراً ليست ملموسة ولا محسوسة، إنما تسري في أوصال المجتمع بأشكال ملونة وبعمليات تجميل باذخة “على كافة الصعد” عبر شاشات الفضائيات ومنصات التواصل الإجتماعي، مستفيدين من نظام الكانتونات ونظم العشائر وجمعيات التواصل الديني، وتأسيس الأحزاب بصيغ جديدة تسمى دوليا “المليشيات” وهي تنظيمات ليست مؤدلجة بالعقيدة السياسية أو الفكرية، إنما مؤدلجة بفكر “الروبوت المبرمج والذكاء الإصطناعي!”.

تسود الفوضى الإعلامية الأن في الدولة العراقية بأعلى أشكالها.. الفوضى المنظمة والمخطط لها والممولة من قبل مؤسسات ترتبط بالعقل المركزي للصورة، وهي مؤسسات حقيقية وغير مرئية، لا أحد يستطيع الأمساك بخيوطها التي تنظمها شبكات معقدة نظمت بناء على توصية من توصيات مؤتمر بال الذي إنعقد في سويسرا عام 1897 أي بعد ثلاثة أعوام من تحريك الصورة الثابتة، إنعقد “مؤتمر بال أو بازل” الذي قاده “ثيودور هرتزل” بدعم من طغم المال المصرفية الممثلة بالتكوين اليهودي الذي هرب من أسبانيا واستقر في إيطاليا منذ القرن الخامس عشر على أثر الصراع الديني الكاثوليكي اليهودي.

في منطقة الشرق الأوسط وحدها توجد ما يقرب من ألف وخمسمائة فضائية تسبح حولها منصات التواصل الإجتماعي التي تتسارع في تطورها شكلا تقنيا وقيادياً بأعلى أشكال المراقبة الأدائية، قسم كبير منها موجه لبلدان بحد ذاتها من بينها وربما في المقدمة منها الدولة العراقية التي أصبحت أقرب إلى الدويلات المؤهلة للإنهيار وما سوف يتبعها من الحروب الأهلية التي إذا ما إندلعت شرارتها فسوف لن تنظفئ نارها..!

منذ سقوط النظام الفاشي الدكتاتوري في العراق، لم يصعد على منصات دولة رئاسة الوزراء في العراق عقلية متنورة في ثقافتها الأكاديمية والوطنية “نبيلة في شرفها الوطني والإجتماعي” قادرة من خلال “كارزما” حضور شخص رئيس الوزراء، على إيقاف التدهور الحاصل في كل مفردات الحياة، وقادر على إيقاف تجاوز الفوضى الإعلامية التي سادت الحياة العراقية، وإنعكاسها على الواقع الإجتماعي والإنساني والتغير السلوكي الأخلاقي بسبب التأثير الأمني والفيزيائي للعملية الإعلامية، شخصية، رئيس حكومة قادر على حسم الموقف الوطني بما يعبر عن عبقرية التاريخ الحضاري الثقافي المتطور في بلاد ما بين النهرين الذي وسم بإسم العراق الذي نعيشه الآن منكسراً متدهورا مفتقدا حتى لبرق من ضوء بعيد..!

مضطر هنا أن أورد مثالين بين نظامين ..!

  • في جلسة مجلس الوزراء التي يديرها الطاغية الدموي صدام حسين، وهو يقظ الحساسية، لمح وزيراً قد حرك يده اليسرى المستندة على الطاولة قليلا وشاهده يمر بنظرته في أقل من ثانية نحو ساعته. قال له “روح البيتكم” وشاهده ولم ينهض لمغادرة الإجتماع، فكرر القول ألم تسمع ما قلته لك روح البيتكم .. أجابه الوزير سيدي لا أستطيع النهوض. ساقاي يرتجفان.
  • ما بعد سقوط النظام وفي جلسة مجلس الوزراء المحددة كل ثلاثاء. قال رئيس الوزراء أن وردة النيل قد إنتشرت في الأنهار العراقية دجلة والفرات وشط العرب وهذه الوردة تعدم الحياة في مياه العراق فمن يا ترى رماها في أنهارنا.. والسؤال موجه لوزير الموارد المائية. أجاب الوزير وزارتنا ليست معنية بأنهار العراق، إنما الأنهار تابعة لوزارة المواصلات!! لم يطلب رئيس الوزراء من وزير الموارد المائية أن يغادر الإجتماع وهو يتقاضى راتبا مقدارة خمسة وعشرين ألف دولار من مصدر خارجي بتمويل عراقي.
  • هكذا تعمل الدولتان “الدولة الفاشية والدولة السائبة .. وهكذا يديرها وزراء العراق!”
  • فما هو التحول الذي انعكس على الشخصية العراقية بين نظامين مصابين بالخلل المسلكي؟

بسبب طبيعة النظام الدكتاتوري وما بعد سقوطه، تحولت الشخصية العراقية إلى شخصية عدوانية لا أبالية في عدوانيتها ساهم النهج الإعلامي السائد في عدوانيتها، ليست عدوانية في سلوكها مع الآخر، بل حتى عدوانية في إبتكاراتها التقنية في إيذاء أبناء مجتمعها، وهي ظاهرة وليست إستثناء، وتدعو للتأمل وبحث الأسباب الكامنة وراء بناء الشخصية العراقية. ودراسة هذه الظواهر وتأثير شكل الدولة ونظمها القسرية المخيفة في المجتمع سواء الحقبة السوداء المتمثلة بالفترة من السابع عشر من تموز 1968 حتى التاسع من أبريل 2003 أو الحقبة التي أتت بديلا قسريا وليس عبر ممارسة سياسية ذات نهج حر وديمقراطي، فجاء نظام هجين فرض نفسه على دولة عريقة في التاريخ ومجتمع طيب وحضاري بنى الأسس النموذجية للحياة الإنسانية والثقافية.

 بعد سقوط حقبة الدكتاتورية السوداء، أحاط برأس الدولة وزراء وأعضاء برلمان معظمهم يحملون شهادات مزورة سواء من جامعات عراقية أو عربية وإسلامية تعاني من أزمات إقتصادية في واقع عربي وإسلامي متدهور، صارت تمنح أعلى الشهادات الأكاديمية لتجاوز الأزمة الإقتصادية التي تعاني منها تلك الجامعات، مستفيدين من أسراب من الأميين العراقيين الذين ينتمون لمليشيات يطلق عليها مجازاً تعبير “الأحزاب”، تشكلت في العراق من حطام شعب أتانا من ظلمات سجن كبير ومخيف في كل ممراته وساحاته وصحاراه وبساتينه، أتانا من بيوت الأشباح غير المدونة والمعرفة، أتانا بضحاياه من المسجونين وجلاديهم من الأشباح السجانين الذين دخلوا أفوجا في مؤسسات المليشيات التي تسمى مجازاً أحزابا، وبينهم كل العاملين في صفوف المؤسسة الفاشية التي سقطت.. وأتانا شعب مهشم الروح والجسد يعيش نهاياته، يولد من رحمه جيل مريض متوترعدواني لا يعرف الرحمة، لم يسمع من وسائل إعلامه شيئا من حضارته، ولا يرى في كل مناهج الإعلام التي تستهدفه من خارج حدوده من القنوات الفضائية غير المصرح بها، والتي تجاوزت الألف وخمسمائة فضائية ناهيك عن وسائل التواصل الإجتماعي المبرمجة عالميا، وكذلك من داخل حدوده من القنوات الفضائية التي تجاوزت الخمسين فضائية إلى جانب منصات التواصل الإجتماعي التي بمجموعها “من القنوات والمنصات” تستطيع تحريك الشارع العراقي، وتحديد شكل التحريك وتزويد الحراك بكل وسائل التخريب لمجتمع يعيش هو حالة الخراب. تضطلع بها قنوات خارجية موجهة نحو العراق مكمن الحضارة الأولى والكتابة الأولى والقوانين الأولى وخزين ثروات الطبيعة، فيما تستثمر الفضائيات العراقية التي تأسست بتخطيط مبرمج وبتكليف مسبق من قبل الحاكم المدني العسكري “بول بريمر” ليس فقط لتشظي الوطن العراقي وزراعة بذور الخراب التي نمت متسارعة أشجاراً شوكية يابسة، بل لخلق طبقة ثانية مترفة وبطريقة فوضوية ممثلة بالصحفيين، فتحت لهم أبواب الشهرة وما ينتج عنها من الغنى والثراء والفساد بديلا عن المهمة النبيلة للصحفي والصحافة وللأدب والثقافة وسعة الأفق السياسية في بناء المجتمع. ولقد ظهر على شاشات التلفزة وأحيانا في منصات التواصل الإجتماعي نفر من الإعلاميين والمتواصلين الذين لا تلزمهم قوانين المجتمع المتوارثة تاريخيا وقيميا، بل يصار إلى بناء فئات تبحث عن زلات إجتماعية صغيرة تحيلها إلى سمات إجتماعية وثقافية سائدة من سمات المجتمع العراقي.. بات الخراب يسري في جسد وروح الوطن العراقي. وباتت العملية الإعلامية معولا هادما لقيم المجتمع وتماسك بناء المجتمع وتشظي كيان الوطن وتناقص مساحته وضياع حدوده ومحو بعضها أو إنسحابها من أمكنتها وحتى إعادة رسمها على الخارطة الورقية وإعتمادها بديلا عن حدود المسافات التي أقرتها المؤسسات الدولية المعنية برسم خرائط الأوطان. بل أصبح الإعلاميون بحاجة إلى إعلاميين لإصلاحهم وإرشادهم لدرب الوطن السوي، حين سرى الفساد المالي والإخلاقي على الجميع وغاب عن درب الإضاءة في عتمة الحقب السياسية التي تمر بها الأوطان في الظروف الإستثنائية الصعبة تلك المصابيح التي كثيرا ما تحولت إلى أمثلة ورموز للشهادة الصعبة، فيما الإنسان يحيا مرة واحدة في الحياة، ومن الصعب عودتها. وأمامنا في غزة مثالا حيث، وحتى كتابة هذه الكلمات، سقط مائة وثلاثة من الصحفيين والإعلاميين تحت عنوان “الشهادة” فدية لبناء وطن محاط بكل صنوف السفلة، ومن بينهم عدد لا يستهان به من الحاكمين العرب!

لم تعد في الوطن العراقي فضائية نظيفة، حين سرى خراب الضرورة بضمنها شبكة الإعلام العراقية الرسمية التي نفخ كادرها بما يسمى الفضائيين، وتاه نظام الحساب والمحاسبة والبحث عن الحقيقة في المجتمع والماضي والحاضر وقراءة الحاضر بعين المستقبل. لقد أصبح نظام الفضائية العراقية نموذجا للفساد والخراب يمكن إعتماده نموذجا لفضائيات الخراب أو تلك المؤهلة للخراب!

يجب وينبغي وبدون تردد إلغاء العملية الإعلامية كاملة وإلغاء تلك القوانين التي جيء بها برانيا من قبل الحاكم المدني العسكري “بول برايمر” مستهدفة تشظي الوطن وزرع بذور الخراب التي باتت أشجارا شوكية يابسة، ووضع قوانين جديدة ومتميزة للإعلام يكتبها نخبة من أبناء الوطن الوطنيين والأكاديميين.. والإسراع في بناء المدينة الإعلامية خارج العاصمة لأن الإعلام هو مكمن الخطر على الصعيد الإجتماعي والإقتصادي والسياسي والثقافي وأكثر منه الأمني والفيزيائي، أن تبنى المدينة الإعلامية على مسافة عشرين كيلومترا كحد أدنى بعيداً عن العاصمة ، وتوفر لها كل وسائل العيش والتعليم، وأن يكون لها قمرها الإصطناعي الذي يبث من الوطن العراقي واعتبار كل قناة عراقية تبث من خارج العراق قناة أجنبية تحاسب مكاتبها ومراسلوها مثل القنوات الأجنبية، ووضع رقابة حاسمة دونما خوف ولا جزع، لأن الإعلام هو عملية خطيرة، يحاول مبتدعوها من الفرنجة، أن يفرضوا على بلداننا حرية التعبير التي وضحت بأنها حرية الخراب .. بعدها يمكن ومن خلال قوة الإعلام ووعي الضرورة فيه، بناء الوطن حيث يصبح البناء من التفاصيل التي تبنى على أسس راسخة حين يكتمل بناء العملية الإعلامية، ففي الإعلام يكمن الخطر. والوطن مؤهل لحرب أهلية، إذا ما إندلعت شرارتها فسوف لن تنطفئ نارها.

أقرأ أيضا