لو تسنى لهذا الكتاب أن يصدر باللغة الإنجليزية، ما الذي سينتظره؟ بوسعي القول إنه سيتحول إلى قضية رأي عام إنساني، كما أن السينما لن تفرّط أبدا في مثل تلك القصة المؤلمة تماما مثل فيلم “خمس أقدام تفصلنا” للمخرج جاستن لويس بالدوني.
مارس مؤلف “كلنا مريم” العُماني محمد المرجبي رباطة جأش منطوية على ذاتها عندما كان الأب المثقل بالفقد وكاتب سيرة ابنته في آن.
قيمة هذا الكتاب (508 صفحات من القطع الكبير) تبدأ من غلافه، الذي جسد البراعة الحسية لمصممه يوسف البادي، عندما طلب من أفراد أسرة مريم كتابة أسمائهم بالخط الذي يفضلونه، وفي النهاية أخذ حرفا من كتابة كل فرد ليجمعها في شكل مبتكر لاسم مريم، وكأنه يقول للقارئ إن دلالة الأسرة تكمن في وحدتها عند المصاعب. وعندما سقط شعر مريم أثناء العلاج تضامن كل أفراد الأسرة فحلقوا شعور رؤوسهم معها في رحلة ألم على مدار أربع سنوات من العلاج في عُمان والهند وتايلاند والبحرين.
أصيبت مريم بـ “سكسل” وهو مرض وراثي غريب يصيب أي مكان في الجسم، مرض شرس وصعب ومخادع.
المشكلة تكمن في حيرة أسرة مريم عندما تسأل الأطباء السؤال التاريخي الذي يلبد مشاعر المريض وأسرته “هل لهذا المرض علاج؟” وتأتي الإجابة بمثل خداع المرض “يوجد ولا يوجد”! أما المريض فيجب أن يعيش في جو مثالي للغاية، فالبرد قد يؤذيه والحر قد يستنزف السوائل فيؤذيه أيضا.
هذا الكتاب موجع وحزين ومكتوب بلا فذلكة لغوية، بقدر ما هو إنساني يشعر قارئه بأنه جزء من هذه الأسرة التي تعيش على ترقب ألا تفقد ابنتها فارعة الجمال وكأنها قطعة حلوى عمانية، أو كما يكتب المرجبي”مريم تظل جميلة مثل حسناوات أفلام الكارتون التي ترسمها”.
صنع الأب قصته من أوجاعه وهو يرى ابنته تذبل أمام عينيه، اقترح عليها أن ترسم كل ما يمر عليها في عزلتها وهي اقترحت عليه أن يكتب يومياتها في صراعها مع المرض. أنشأ مجموعة “كلنا مريم” على وسائل التواصل شارك فيها العشرات من الأقارب الذين يتابعون أخبار مريم، وتحول المرض إلى فعل إنساني مشترك ودعم مطلق عندما تتدفق المشاعر في رحلة العذاب التي استمرت لسنوات، حتى وصلت إلى مدرستها عندما وقف جميع التلاميذ في طابور الصباح يتضرعون إلى الله في دعاء طويل راجين منه الشفاء لمريم. عندما شاهد الأب الفيديو بكى بمرارة عميقة وشعر للمرة الأولى في حياته بهيبة طابور المدرسة. دعونا نسأل عن الكاتب وليس الأب، أي لغة ستنجده للتعبير عن هذا المشهد المترع بالحب والترقب؟
هكذا يكتب “حتى البكاء له أنواع ودرجات. وبعض بكاء مريم صرت أعرفه قبل حدوثه بلحظات. إنه بكاء شديد المرارة والصدق. لذلك أتمنى لحظتها أن أغيب عن الدنيا بأي طريقة حتى لا أراها في تلك الحالة. اليوم صدر منها ذلك، وقمت فورا وكأنني سأسأل عن شيء وخرجت خارج المستشفى حاملا غصتي التي انفجرت داخل السيارة. ففي هذا البكاء ترثي حالها وقلة حيلتها. شعرت أنني سوف أنهار”.
لم يجد الأب الكاتب بينما مريم تنازع الموت في أشهرها الأخيرة في قسم العناية المركزة غير جملة “ربي أرِني فيها عجائب رحمتك” ليكتب لحظة رحيلها “مريم في هذه اللحظات مشروع شهيدة بامتياز. سيتغير وجهها بعد ساعات إلى قمر منير وابتسامة قادمة من بعيد جدا، تطمئننا وتقول لنا: سأصبح أفضل بكثير، ولكن لن أكون هنا.. سنتشرف بأن نطبع على جبينها القبلة الأخيرة”.
في النهاية لم تحضر مريم حفل توقيع الكتاب الذي اقترحته على أبيها، إذ لم يوفِ الأب بوعده؛ وأنّى له ذلك والموت هو القدر الذي لا أحد بإمكانه الوقوف في وجهه! فرحلت قبل يومين من عيد ميلادها الثامن عشر.