كثير من العراقيين يعتقدون أن انقلاب 8 شباط كان (فلتة) لم يكن لها أن تنجح لولا بعض الأخطاء التي ارتكبها الزعيم قاسم وعدم تقديره السليم للموقف، وإن الانقلاب لو فشل لتغير مصير العراق ومضى في طريق آخر غير طريق الدم والدموع، لكن بدراسة متفحصة وعلمية و(محايدة) نحصل على نتائج مغايرة وأرى أن الأوان حان لنشر كل أسرارنا وزوايانا المعتمة التي ظلت بعيدة عن الضوء لاعتبارات سياسية وهو ما لم يخدم قضية شعبنا وبلادنا.. لقد استسلم ألزعيم عبد الكريم قاسم لأعدائه يوم التاسع من شباط 1963 بعد نهارين من مقاومة ضباطه وجنوده في وزارة الدفاع بحجة حقن دماء الناس آملا ومعتقدا أن هؤلاء الأعداء سوف لن يقتلوه لذلك طلب منهم تسفيره خارج العراق أو تعيينه سفيرا، ترى لو أن الانقلابيين كانوا أقل دموية وأكثر حكمة فاستجابوا لرغبته وهي التصرف السياسي المنطقي لغيرهم في حالة كهذه، كيف كان سيكتب التاريخ؟ وماهو موقع الزعيم قاسم لدى الناس؟
هذا المدخل لمناقشة سؤال هل كان انقلاب 8 شباط حتميا؟ أم أنه كان مغامرة مع بعض الصدف التي سهلت عمل الانقلابيين وبعض الإهمالات هنا وهناك في جبهة الزعيم وحلفائه كما تتحدث المرويات اليسارية والمتعاطفة معه؟ ثم السؤال الأهم ماذا لو فشل انقلاب 8 شباط؟ وكيف ستتطور الأمور وماهو السيناريو ألذي يمكن تصوره لسلوك الزعيم قاسم السياسي حينذاك؟
لقد كان استسلام الزعيم قاسم لأعدائه مخلا بدوره وصورته كقائد للشعب كما نم عن عدم فهم لخصومه واعتلال أولوياته، فهو اعتقد أن حياته ليست مستهدفة لأنه حارب الشيوعيين خصوصا في السنة ونصف الأخيرة من حكمه وأعاد للخدمة العسكرية ضباطا قوميين وبعثيين كان لهم لاحقا دور أساسي في انقلاب 8 شباط مثل حردان التكريتي وعارف عبد الرزاق في حين أخلى الجيش من أي ضابط فيه رائحة شيوعية وسهلت أجهزته الأمنية وإدارات أخرى سيطرة البعثيين والقوميين على منظمات ونقابات ومؤسسات حكومية، لكن قاسم لم يدرك خطورة بعض القرارات التي اتخذها مثل القانون رقم 80 والإصلاح الزراعي والتي أحدثت لدى قوى سياسية مهمة رغبة شديدة في الثأر منه لتضرر مصالحها وبدفع من قوى عالمية تضررت بدورها من تلك القرارات.. الانقلابيون كان يمكن أن لايعدموا قاسم الذي فقد الكثير من شعبيته في السنتين الأخيرتين من عمره ولم يعد يشكل وجوده خطرا على النظام الجديد لكن الطبيعة الدموية والروح الثأرية القبلية لم تكن لتتسامح مع عبد الكريم قاسم ورفاقه رغم أن ذلك كان سيصب في خدمة هذا النظام ولو حدث ذلك لتم القضاء نهائيا على صورة عبد الكريم قاسم وذكراه لدى جمهور واسع من العراقيين كما حدث مع عبد الرحمن عارف وغيره من ضباط وسياسيين خسروا مواقعهم إثر تغيير في السلطة فإكتفت السلطة الجديدة بنفيهم.
عندما نفذ حزب البعث محاولة لاغتيال عبد الكريم قاسم كان متوقعا على نطاق واسع أن الأخير سيشن عليهم حربا دون هوادة ويقرب الشيوعيين لكن العكس هو ما حصل لإعتبارات ذكرتها في مقالات سابقة ولو أن انقلاب شباط فشل فلم يكن السيناريو ليتغير جوهريا لان أولويات عبد الكريم قاسم كانت تضع الشيوعيين كخطر له الاولوية ليس على اساس الوقائع الميدانية ولكن على أساس عقائدي يرى في الشيوعية خطرا داهما على النظام والدولة يجب وأده والتصدي له فكريا وأمنيا فيما كانت مشكلته مع البعثيين أنهم يعملون ضده فيما لايرى هو مبررا لعداءهم له، فهو لم يرى فيهم خصما عقائديا ولا يعتقد بخطورة تفكيرهم على النظام والبلد، ولعل رأيي هذا يصطدم بعدم رضا واسع لأن الزعيم عبد الكريم قاسم أمسى شخصية مقدسة يصعب المساس بها.
إن الزعيم قاسم هو صانع 8 شباط بأخطائه وأولوياته الخاطئة وإيديولوجيته الخفية في معاداة اليسار الذي بدا يوما متماهيا معه لأغراض تكتيكية، لكن قراءة في كتاب الدكتور عبد الفتاح بوتاني عن وثائق الأمن العامة في عهد قاسم ستوضح الكثير عن تفكير قاسم إذ وصل الأمر به لإستدعاء مدير التحقيقات الجنائية في العهد الملكي (سميت بعد 14 تموز بالأمن العامة) بهجت العطية المحكوم بالإعدام وعقد اجتماع معه للاستفسار عن أساليبه في مكافحة الشيوعية وفي وقت مبكر وقبل أن يبدأ حملاته ضد الشيوعيين وفي فترة شهر العسل بينه وبينهم.
لقد وضعت الأقدار الزعيم قاسم في موقع لم يكن خياره بالكامل ففي لقاء تم بينه وبين رئيس الحزب الوطني الديمقراطي كامل الجادرجي يرحب بالأخير مدعيا إنتماءه لمدرسة الجادرجي وهي الفكرة السائدة عنه، لكن الجادرجي اعترض وقال له إن سلوكك السياسي لا ينتمي لمدرستي السياسية والفكرية.. لو أن انقلاب 8 شباط لم ينجح ولم يصل البعثيون للحكم وجزئيا بفضل دعم الشيوعيين لقاسم، فإن الأخير لم يكن ليوقف ملاحقاته للشيوعيين ولن يستئصل البعثيين كما يفترض كثيرون، بل لا أشك أنه سينظر لما حدث على أن الشيوعيين أصبحوا البديل لنظامه وهو مايوجب تحجيمهم، فموقف قاسم من الشيوعيين مبدأي وعقائدي كما موقفه من البعثيين، ففي الوقت الذي نظر للشيوعيين كأعداء لفئته الاجتماعية وعد طروحاتهم خطرا ورأى أن دوام نظامه وتأهيله وقبوله من العالم يقتضي تقزيم دور الحزب الشيوعي فإنه أراد أيضا إرضاء فئات إجتماعية عراقية لها مصالح هددها الشيوعيون ومثل البعثيون الإطار المعبر عنها.
لقد كان انتصار حزب البعث والتيار القومي رغم أنه تم بانقلاب عسكري، لكنه حدث في سياق التطور الطبيعي للأحداث حيث القوى الإجتماعية والسياسية التي مثلها الانقلابيون كانت الأقوى في عملية الصراع الدائرة في البلاد والتي كان قاسم يحاول الإستفادة منها لتبرير بقائه في السلطة حكما بين المتصارعين رغم عدم حياديته في الجوهر والعمق سيما وقد حظي أحد طرفي الصراع بدعم قوي من ممثلي مصالح عالمية غربية في حين أن قوى عالمية أخرى يفترض أن تدعم محازبيها الفكريين حجبت الدعم الحقيقي المفترض مبدئيا وفضلت مصالح آنية مباشرة في صفقة غير مكتوبة وحتى غير مسيطر عليها تعتبر العراق حصة للغرب وميدانا لمصالحه، وهكذا فإن مابدا في صباح 8 شباط 63 مغامرة غير محسوبة العواقب صادفها النجاح بسبب أخطاء وظروف إستثنائية كانت قرارا حاسما وتأريخيا من تحالف واسع بين قوى محلية مهيمنة على أجهزة السلطة وذات نفوذ سياسي رغم أنها نظريا خارج السلطة وقوى خارجية دولية داعمة لها وبين تحالف نظري مفكك وغير منظم بين قوى إجتماعية وسياسية تمثل مصالح غالبية الشعب مع السلطة الحاكمة التي واقعيا كانت تميل للطرف الآخر.