كثر الحديث حول أهمية وفحوى زيارة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، إلى لندن، التي اختتمت يوم الخميس الماضي (وجرت بين 13- 16 كانون الثاني يناير الحالي)، فهناك من قلل من شأنها وعدّها غير مجدية، بل حكم عليها بالفشل، ومنهم من بالغ في فحواها واعتبرها فتحا غير مسبوق، ناهيك عمن نسب إليها ما لم يكن فيها من الأصل.
ومن خلال متابعتي الدقيقة للزيارة عن كثب، أرى أن الرأيين السابقين لا يعكسان الحقيقة بشكل كامل، ولا يشكلان الوصف الدقيق الوحيد لها، إذ يمكن اعتبار الزيارة بمثابة خطوة أولى في طريق طويل نحو تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، لا أكثر من ذلك ولا أقل، وهي كما وصفها السفير البريطاني في بغداد، ستيفن هيتشن، بأنها “فتحت صفحة جديدة في العلاقات بين العراق والمملكة المتحدة”.
إن أي مراقب متبصر لا يمكنه التقليل من أهمية اللقاءات التي جرت خلال الزيارة، بدءًا من اللقاء التاريخي بين رئيس الوزراء العراقي والملك تشارلز الثالث في البلاط الملكي، الذي استقبل لأول مرة رئيس حكومة عراقي، وصولًا إلى لقائه مع نظيره البريطاني كير ستارمر، فضلًا عن الاجتماعات مع العديد من المسؤولين الحكوميين وممثلي الشركات الكبرى الراغبة في دخول السوق العراقية، إضافة إلى توقيع مذكرات تفاهم واتفاقيات بلغت قيمتها نحو 15 مليار دولار، إلى جانب قرار رفع العراق من القائمة الحمراء في تقييم المخاطر لأول مرة منذ عقود، ما يعد علامة فارقة في مسار تعزيز العلاقات بين البلدين.
يأتي ذلك، في وقت يواجه فيه الاقتصاد العراقي تحديات جسيمة، ما يجعله في حاجة ماسة إلى دعم خارجي لتحفيزه، وهذا بدوره يبعث برسائل إيجابية إلى المجتمع الدولي حول رغبة بغداد في تعزيز انفتاحها على الغرب وتوسيع علاقاتها مع الدول المختلفة، بما يسهم في تعزيز مكانتها السياسية والاقتصادية على الساحة العالمية.
لقد كان من اللافت أيضا حضور شركات إيرلندية مهتمة بالاستثمارات غير النفطية، مما زاد الزيارة بُعدا إضافيا وأكسبها أهمية أكبر، بالإشارة إلى تجاوزها حدود المملكة المتحدة.
ولكن في المقابل، لا يمكن تجاهل الجوانب الغامضة والظروف غير المألوفة التي أحاطت بالزيارة، بدءًا من مفاجأة البلاط الملكي البريطاني بتسلم أسماء مرافقي رئيس الوزراء في نفس يوم الزيارة، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ البلاط الملكي الذي يحرص عادةً على استلام قوائم الضيوف قبل عدة أيام من الحدث.
إلى ذلك، وعلى الرغم من الطابع الاقتصادي الواضح للزيارة، إلا أن هذا التوجه لم يتجسد سوى عبر مذكرات تفاهم فقط، دون أن يتم تحديد آليات عملية واضحة لتنفيذها ومتابعتها، ومن دونها ستظل تلك المذكرات حبيسة الأدراج، مثل سابقاتها من الاتفاقيات التي انتهى بها المطاف إلى النسيان، دون أن تُترجم لعقود ملزمة للطرفين وتحقق الفائدة المرجوة.
في ذات الوقت، كانت خيبة الأمل ظاهرة على وجوه بعض رجال الأعمال العراقيين الذين شاركوا ضمن الوفد الحكومي، وذلك نتيجة عدم جدوى الجلسة المخصصة لهم مع نظرائهم البريطانيين -من وجهة نظرهم-، والتي لم تحقق أي فائدة تذكر بسبب سوء التنظيم، ما حال دون تمكنهم من التشبيك وبناء علاقات فعّالة، إلى جانب ذلك، غاب أي ذكر للزيارة في “فايننشال تايمز”، الصحيفة الاقتصادية البريطانية الأبرز، في حين اكتفت “بلومبيرغ”، الدورية الاقتصادية الأشهر عالميا، بتغطية خبر مذكرة التفاهم بين الحكومة العراقية وشركة “بي بي” البريطانية لتطوير حقول كركوك.
يحدث ذلك في وقت تتزايد فيه التوقعات الصعبة من نتائج الزيارة، إذ لا تزال الفجوة بين الوعود والواقع كبيرة، بسبب تراكمات عقدين من البيروقراطية، والفساد، والتحديات الأمنية، ما يجعل الحاجة ماسة إلى جهود استثنائية لتصحيح المسار، وعدم الاكتفاء بمجرد توقيع مذكرات التفاهم، كي لا تقتصر الزيارة على تحسين صورة الحكومة العراقية في الخارج والداخل، بل تكون فعالة وخطوة حقيقية نحو جذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز التعاون الفعلي، وهو ما حاول السوداني فعله من خلال إطلاقه تعهدات إضافية بتذليل كل التحديات أمام الشركات البريطانية والأوروبية التي التقاها.
الزيارة في المحصلة، فرصة دبلوماسية بالغة الأهمية لتعزيز علاقات العراق مع بريطانيا والمجتمع الدولي بشكل عام، إلا أن نجاحها يظل مرهونا بتوفر إرادة سياسية حقيقية لترجمة التفاهمات والاتفاقيات الموقعة، بما يعود بالفائدة المباشرة على الشعب العراقي.