بعيدا عن حماسة الشعارات، أثارت زيارة الرئيس الامريكي دونالد ترمب لجنوده في قاعدة عين الأسد بالانبار، دون اللقاء بالسلطات العراقية، عدة تساؤلات:
رأى البعض أن طريقة وشكل زيارة ترمب لجنوده في الانبار تشكل اهانة للدولة العراقية، وعليه فلا تصح مقارنة ذلك بوقوف طائرته في احدى القواعد العسكرية الأمريكية في المانيا، في طريق عودتها الى واشنطن. وللتوضيح فقط، علينا أن نعرف بأن الوضع القانوني لقاعدة عين الاسد ليس ذاته للقواعد العسكرية الامريكية في ألمانيا، إذ أن اتفاقية الاطار الاستراتيجي (صوفا) بين العراق والولايات المتحدة : تلزم القوات الامريكية باحترام القانون والاعراف والتقاليد العراقية.
http://gjpi.org/wp-content/uploads/2009/02/sofa-arabic.pdf
من الواضح أن للزيارة أجندة داخلية امريكية واقليمية، بعد قرار الرئيس الامريكي سحب قواته من سوريا، جاءت زيارته لـ”عين الأسد” تكشف عن إعادة انتشار جزء من قواتهم في المنطقة. المهم هنا، ان العراق بات، اكثر مما مضى، نقطة انطلاق لعمل القوات الامريكية في الشرق الادنى، في ظل تنسيق جديد ستراتيجي وعسكري بين تركيا والولايات المتحدة في سوريا، وتحديدا في القسم الكردي منها.
رغم أن الجميع يعرف زلات الرئيس الامريكي الدبلوماسية، إلا أن زيارته لجنوده في العراق كانت مقصودة، من أجل توجيه رسالة بأن بغداد في عين إدارته أقل من قيمة «عين الاسد» ! هذا الموقف ليس خاصا بدونالد ترمب فحسب، بل تميز به أوباما أكثر. ربما يكون الفرق الوحيد أن ترمب تاجر ومُحتقر للأعراف الدبلوماسية، فيما يبدو أوباما اكثر سادية في التعامل معها. وللتذكير، لم يخرج اوباما من قاعدة فكتوري القريبة من مطار بغداد عام ٢٠٠٩، حتى توجه اليه كل من عرفهم العراق يومها من مسؤولين تنفيذيين وعلى رأس السلطة التشريعية وتلك الخاصة بالاقليم. كل ما في الأمر هو أن دونالد ترمب حاول هذه المرة تجاهل جميع هذه السلطات (حتى من الناحية الشكلية). في المقابل، تشير بعض المصادر وبيانانت صادرة من مكتب رئيس الوزراء السيد عادل عبد المهدي، أنه رفض مقترحا امريكيا بتنظيم لقاء عاجل بين الرئيس الامريكي ورئيس وزراء العراق في القاعدة ذاتها، ووسط جنود أمريكان.
وبالنظر للمثل القديم المتجدد القائل “فاقد الشيء لا يعطيه”، فاننا نعرف أن العراق منذ ١٩٩١ بلد فاقد نسبيا للسيادة، ويكفي لتأكيد ذلك النظر لمهزلة اختيار وزير حالي للداخلية : فالجميع يتنكر لترشيح السيد فالح الفياض، والجميع يخشى الاشارة للجهة الحقيقية التي رشحته ! عندها، لماذا ننتظر من رجل كترمب أن يحترم ما نسميه نحن بالسيادة العراقية ؟
رغم ذلك، زيارة ترمب «الطبيعية» لجنوده، والمخلّة بالعراق كشفت اشياء اخرى، ربما اكثر اهمية :
١- هناك شعور عراقي بوطنية مجروحة، وليست هذه المشاعر بالية، بل هي قيم سيكون لها مستقبل ايضا.
٢- زيارة ترمب لقاعدة عين الاسد في الانبار، أكدت مجددا بأنه ليس للحكومة العراقية من وزن مهم في واشنطن، لا بحكومته التعددية، ولا برلمانه ولا برئيس دولته.
٣- سيكون لهذه الزيارة تبعات، بعضها آني، والبعض الآخر ستظهر نتائجه على المديين المتوسط والطويل. وربما شعر الامريكان قبل غيرهم بما قد تثيره هذه “الزوبعة”، حيث قرروا سريعا إرسال وزير خارجيتهم الى العراق (في الاسبوعين القادمين). إن خشيتهم هذه ليست من ردود فعل افتراضية من قبل الدولة العراقية، بل من تفاعل هذه «الاهانة» مع مشاعر عشرات الملايين من العراقيين الناقمين من وضعهم المعاشي والخدمي الكارثي، فالتجارب التاريخية تؤكد بأن الأزمات الداخلية المختلطة بالهيمنة الخارجية المذلة تقود في الغالب لهبات أكثر راديكالية.
٤- قلنا ان للرئيس الامريكي ترمب نظرة احتقار للاخر (يكفي الاستماع لتصريحاته اثناء وبعد حملته الانتخابية الاخيرة). لكن الجديد هذه المرة هو أن ترمب لا يتوجس (بل ربما يتمنى) ردة فعل عراقية عاطفية محتملة تذهب حد المطالبة الرسمية باجلاء قواته. عندها يصبح امام ادارة ترمب خيارات عدة، اهما : اما التصادم مع بغداد، أو التشجيع على تفكيكه (مستشاره جون بولتن احد المدافعين عن هذه السياسة). ليس المطلوب عراقيا القبول باحتلال ثانٍ كي نفشل مشروعه هذا (وإلا لتحول الامر الى مهزلة حقيقية)، بل مطالبة الولايات المتحدة علنا باحترام اتفاقية الاطار الاستراتيجي بحذافيرها، وهذا ما لم يحصل مع زيارة ترمب لقاعدة عين الاسد (ولا حتى قبلها).
مهما قيل بشان زيارة ترمب الخاطفة لجنوده في الانبار، الا انها مهمة بمعانيها العراقية، والجيوستراتيجية، فهي تكشف أيضا عن رغبة امريكية حقيقية بتسيّد المشهد، والاحتفاظ بقدرة ميدانية حقيقية في المنطقة انطلاقا من العراق. في المقابل، ليس لدى العراق فريق سياسي قادر على طمأنة الشعب ومواجهة الضغوط الامريكية والايرانية المتزايدة، لذا فسيكون أمام العراق ايام عصيبة قادمة.
باحث الانثروبولوجيا السياسية في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي