مرت على فرنسا قبل أيام موجة حر غير مسبوقة, سجلت فيها درجات قياسية ونادرة, ففي باريس سجلت (42) درجة مئوية، ووصلت في الجنوب الفرنسي إلى (45), ورغم أنها قد تعد ربيعا في العراق، لكنها تعد كارثة في فرنسا قد تحصد آلاف ألأرواح لاسيما كبار السن, وهذا ما حدث قبل سنوات حين قضى احد عشر الفا من المسنين بمجرد وصولها السبع وثلاثين؟!
أخرجتني تلك الموجة من سبات الأجواء المعتدلة هنا ودفعتني إلى استغلال زاوية ميتة في حديقة بيتي الخلفية لإعادة تنظيمها بالشكل الذي يجعلها ملاذا أمنا لتفادي الحرارة خصوصا في بيوت كان قد مضى على بنائها عقود طويلة في وقت لم تكن فيه الحرارة تصل إلى مثل هذه المعدلات المتطرفة, فلم يحسب فيها حسابا لأجهزة التكييف, فقمت بطلاء جدار تلك الزاوية باللون الأبيض الناصع بعد أن كان حائطا إسمنتيا أصما تركت عليه الطبيعة أثارها عبر السنوات الطوال مما شجع زوجتي التي تعشق التسوق بكل أنواعه أن تركب سيارتها مسرعة نحو متجر إكيا العظيم لتعود محملة بالإكسسوارات الخاصة بالحدائق من أثاث وأصص الورد الطبيعي والأثل الاصطناعي وغيرها, وبعد عمل دام عدة أيام خرجنا بجلسة جميلة تجاوزنا فيها تلك المحنة الساخنة وخرجنا بإطلالة رائعة على الحديقة حولتها زوجتي إلى جنينه صغيرة لا تقل روعة ورومانسية عن تلك الإطلالة الملكية التي كانت تعشقها ماري أنطوانيت في قصر فرساي العظيم, لكن الفرق أن كلفتها لا تقارن بكلفة تلك الإطلالة الملكية.
ساهمت تلك الموجة في نضوج ثمر التين في الشجرتين العظيمتين اللتين تتوسطان الحديقة بشموخ وكبرياء لتكسرا عين الشمس وتحجبا أشعتها الحارقة عمن يرغب بالجلوس والاسترخاء تحتهما حتى وإن كان ذلك في شهر تموز.. بدأت اقطف الناضج من ثمر التين لنأكله طازجا ولتصنع زوجتي من المتبقي مربى التين التي لا تضاهيها حتى ماركة (بون مامان) الأشهر في فرنسا, وبينما أنا منشغل بقطف ما تستطيع يداي الوصول إليه من تلك الثمار فوجئت بتلبد السماء بالغيوم التي غطت عين الشمس ثم ما لبثت أن ملأت السماء, وما هي إلا لحظات حتى هطل المطر بغزارة و تغير حال الجو من صيفي بامتياز إلى خريفي بامتياز لتثبت لي السماء حقيقة ما يتندر به صديقي الباريسي المقرب كريستيان مارشال في مثل هذا الجو حين يقول (شيئان لا يمكن التنبؤ بهما في باريس, الجو وقلب الفتاة الباريسية, فكلاهما متقلبان لا ثبات لهما).
كان تأثير موجة الحر تلك في إنضاج ثمار الأشجار معاكسا لتأثيرها في نضج عقول البعض, فهي تزيد من نسبة البلادة لديهم وتشل ما تبقى من تفكيرهم الضيق لتنعكس على تصريحاتهم, فتخرج التصريحات من غير أماكنها؟ ! يقول غابريل غارسيا ماركيز واصفا بطل روايته الجنرال الدكتاتور “لقد وصل الحال بالجنرال أنه بدأ يتكلم من دبره ويخرج من فمه”! وهذا ما يعطيك انطباعا واضحا عن تلك الفكرة حين يصرح أحدهم بأن العراقي يعيش اليوم في رفاهية لا تقارن بتلك التي كان يعيشها سابقا أو ذلك الذي يصرح تصريحات مضحكة عن مصادر المخدرات في العراق ليجامل جارتنا الطيبة إيران! أو من يدعو العراقيين للتقشف في الصرف وترك النستلة في الوقت الذي ليس لديهم رغيف خبز ليأكلوه؟!
لم أتحرك رغم هطول المطر بغزارة لأنه أعادني إلى أيام الحياة في العراق, فمن سابع المستحيلات (كما يقول المثل العراقي رغم إنني لا أعرف لماذا هي سبعة بالذات؟) أن تمطر السماء في شهر تموز لاسيما أن المطر أصبح شحيحا حتى في مواسمه, ثم تذكرت حادثة تنسب لأحد وزراء الداخلية من أصحاب المعالي في ذلك الزمان الذي يطلق عليه اليوم زمن النظام السابق والذي أصبح زمنا يتحسر عليه العراقيون بكل أطيافهم على خسارتهم إياه لما ذاقوه من عذابات في زمن العراق الجديد!! كان صاحب المعالي بمزاجه البرتقالي كما يطلق على أصحاب المزاجات المتقلبة يكتب هامشا على ملفات المذنبين التي تقدم له ليتخذ بحقهم قرارا لا يقل جفافا عن جفاف صيف العراق؟ جملة تعكس طبيعة حياته البدوية و تصحر أفكاره وجفاف عقليته, جملة ربما لا يفهم معناها صديقي الفرنسي الذي تمطر السماء في بلده في كل وقت من السنة لكنها عميقة المعنى للعراقي الذي غادرت بلده حتى الغيوم وهاجرت بعيدا كي ترمي بخيرها لمن يقدر الحياة, ذلك الهامش الرهيب كان يحمل كل معاني الحقارة البشرية والحقد الأعمى ضد الإنسان, “يودع في السجن حتى سقوط المطر في الصيف”؟ لكن الطريف في الأمر أن الحكومة سقطت وسقط معها معالي الوزير ولم يسقط المطر في الصيف!!