لا يوجد الكثير ممن يبالون بسقوط الصغار، لأنهم بالأساس يتشبثون بمسك الهراء، لكن ماذا لو سقط كبار الصحافيين في العالم، لأنهم فقط يعتقدون أن هناك من يصدق الهراء الذي يدعونه بشأن ما يحدث في الدول العربية، لمجرد أنه صادر منهم!
طالما عرضتُ على مدار سنوات قصصا من هذا السقوط لأسماء غربية شهيرة في عالم الصحافة، عن نظرتهم الى بلدان الشمس الساطعة لأنهم لا يريدون مغادرة الدور السطحي السائد للنظر إلى دولنا من خلف العدسة الملتصقة بعين السائح الغربي، بينما السائح العادي نفسه لم يعد بحاجة إلى تلك العدسة مع انفتاح العالم على بعضه، فكيف بمن يزعم أنه “صانع رأي” و “عقل تحليلي” ذلك ما كتبه في يوم ما الكاتب البريطاني ماثيو باريس ليس بوصفه من بين أكثر الكتّاب الغربيين الذين يعرفون عالمنا العربي فحسب، بل لأنه ينظر بعين مفتوحة للعالم العربي، فاختصر لنا كل ما يجري بجملة “حان الوقت كي نعترف بأننا ضللنا الطريق في الشرق الأوسط. أسفل السياسات الخارجية للولايات المتحدة وبريطانيا تقبع أكبر كذبة استمر تداولها منذ حرب الخليج الأولى، وهي أنا نعرف ماذا نفعل هناك”.
وتساءل “لماذا نحن البريطانيون نتشوق إلى أسطورة لورانس العرب، ونعتقد أننا قادرون أن نعطي لحلفائنا حكمة خاصة وخبرة في المنطقة”؟
مثل هذا السؤال التهكمي يجد له ماثيو إجابة مؤذية بالقول لنعترف بأننا أضعنا الطريق إلى الشرق الأوسط، في سياستنا الخارجية والعسكرية. فاحتلال العراق لم يجلب الديمقراطية لهذا البلد كما زعم “سياسيونا وصحافتنا” بل أسفر وفق ماثيو باريس عن دولة فاشلة، لا تزال تمزقها النزاعات السياسية والطائفية.
ويستمر بالتساؤل في مقاله بصحيفة التايمز “أي أدلة يقدمها لنا التاريخ من فلسطين والسويس وبلاد فارس والعراق وليبيا وسوريا… وانتوني ايدن وديفيد أوين وصديقه الشاه وبلير وكاميرون؟ غير أننا نواصل التخبط”.
مع ذلك، خذ مثلا الكاتب المخضرم باتريك كوبيرن الذي مَهَرَ الصحافة وتجول بين بلداننا ونشر أكثر من كتاب عن ساستنا وتاريخ الحروب الملتبس بما فيها كتابه “مقتدى الصدر وسقوط العراق” وينظر إليه بوصفه أحد أكبر الخبراء في ما يجري بعالمنا العربي! لكن بمجرد أن ذهب إلى بغداد لحوار رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي لم يستطع إكمال الأسئلة الناقصة، وتقبل إجابات “ساسة العراق المفترضون” على هزالتها، فيما تبقى الأسئلة الحقيقية معلقة في الهواء وفي صدور الجمهور.
وهكذا كتب كوبيرن للجمهور البريطاني بأن الأحزاب الطائفية تمثل الحل وليست أساس المشكلة في البلاد المحتلة من قبل القوات الأمريكية والبريطانية! بينما التجربة كشفت أن ربع قرن قضاها العبادي في بريطانيا لم تستطع أن تغير طريقة تفكيره الذي بقي أسير أجواء الحسينية التي ارتادها صغيرا، فالذي كان ينظر له إصلاحيا ارتد طائفيا بدشداشته السوداء وهو يساير الجموع الحائرة والضائعة في لجة سؤال الخرافة التاريخية!
لم ينته الأمر عند كوبيرن! فجيسيكا ديفي التي عملت خمسة أعوام مراسلة صحافية من دول الخليج العربي “تتخرفن” كما تخرفن جون سيمبسون كبير مراسلي هيئة الإذاعة البريطانية -حسب وصف صحيفة الغارديان آنذاك- وهو يعلن بثقة مبالغ فيها عام 2001 في أفغانستان “لقد حررنا كابول!”، وتكرر الأمر أيضا بـ”تحرير العراق” الذي تلاشى ليصبح هذا “التحرير” الخطأ الأشنع الذي ارتكبه السياسيون، وخضعت له وسائل الإعلام.
“تخرفن” جيسيكا يكمن في أن السنوات الخمس التي قضتها تنقل التقارير الصحافية، وتحاور المسؤولين وتشارك في المؤتمرات، وتتجول في الأسواق والملاعب، علمتها أنه من المهم عندما تلتقط صورة لسيدة عربية يجب ان تنتبه كم بوصة عليها أن تظهر من ساقي المرأة فوق حذائها!
لماذا اتذكر كل ذلك اليوم؟ لأن المزاعم المتهرئة التي أفصحت عنها كارين إليوت هاوس رئيسة التحرير السابقة لصحيفة “ول ستريت جورنال” مؤخرا وهي تستذكر حوارها مع صدام حسين عام 1990 تعيد من جديد مطاردة “كبار الصحافيين” للامساك بالهراء!
وتقول هاوس “إن صدام حسين على مدى ثلاث ساعات من الحوار لم يعرض عليها كوبا من القهوة العربية أو الماء، وهو أمر لم تعهده لا من زعيم عربي أو أجنبي” وتفسر ذلك بسطحية مريعة وهزيلة بأنه “يحاول القادة التظاهر بأنهم لطيفون وديمقراطيون، فيقدمون للمرء الماء أو الزهور لكسب الود، أما صدام حسين فكان حريصاً على جعلك تعتقد بأنه رجل قاس، وفي نظري كان الرجل الأكثر قسوة من بين كل من قابلتهم في حياتي”!!
لماذا تريد كارين إليوت هاوس من القارئ العربي أن يصدق كل هذا العبث القاضي بتدمير الذاكرة لمجرد أنه صادر منها أو لأن أسمها يدرج وفق معايير ملتبسة ضمن قائمة “الصحافيون الكبار”؟