صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

سلوك الثأر في الواقع العراقي

على وقع الشعارات والاناشيد الحماسية انطلقت الكثير من الاحداث السياسية التي تأخذ طابع العنف والثأر في العراق، بدءاً من ثورة 14 تموز 1958والتي أطاحت بالحكم الملكي على يد مجموعة من الضباط والذين اطلقوا على نفسهم اسم الضباط الاحرار وشهدت فيها البلاد مجازر بحق الاسرة الملكية والتي عُرفت بمجزرة قصر الرحاب والتي لم يسلم فيها ولم يُميز فيها أي نساء او اطفال عن قصاص هولاء الضباط الذين أخذوا على عاتقهم تنظيف البلاد من الطبقية الاجتماعية، وحكم الاقطاعيين الذين استفادوا من خيرات هذه البلاد.

والاقطاعيون كانوا فوق طبقة الفلاحين وتحت طبقة الملوك والامراء، وقد انتشر مثل هؤلاء وكثر ظلمهم وبطشهم بحق الفلاحين البسطاء، مما دفع الى قيام هذه الثورة والتي تحول فيها العراق الى جمهورية، اعقب ذلك ثورة 17تموز 1968والتي اطاحت بحكم عبد الرحمن عارف آخر الضباط الأحرار والذي كان على خلاف مع باقي الضباط الذين آخذوا زمام الحكم في العراق، فأطيح بحكمه على يد البعثيين والقوميين، وصولاً الى حادثة قاعة الخلد الشهيرة في 16تموز 1979 والتي شهدت اكبر حملة اعتقالات واعدامات من قبل الحكومة انذاك بحق رفاقهم البعثيين والذين وصفوا بالتواطؤ والخيانة.

على هذهِ الشاكلة كان الواقع السياسي العراقي مليئاً بسياسة الثأر والقتل والابادة والانقلابات العسكرية والسياسية. فما تخلص البلد من حكومة الا وجاءت الاخرى منتقمة من الحكومة التي سبقتها مبيدة كل اثارها .الا ان لهذا السلوك جذور مجتمعية فبطبيعة الحال الحكومات العراقية المتوالية على الحكم هي نتاج الشعب فلم نأتي بهذه الحكومات من خارج العراق، بل هي حكومات تعبر عن سلوك وتوجهات واراء ومعتقدات نسبة كبيرة من الشعب العراقي.

واذا اتفقنا على هذه النقطة سيأخذنا هذا الامر الى حقيقة ان لهذا السلوك جذور تاريخية قديمة فالعنف هو الطابع الغالب في الحياة قديماً وحديثاً على جميع الاصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية والطبيعية وشواهد التاريخ عديدة ومن بينها تعرض العراق على مدار التاريخ الانساني لمذابح وانتهاكات كبرى اقترفها غزاة ومحتلون اجانب مثلما اقترفه هولاكو وتيمور لنك في العراق ومن قبلهما الحجاج والخلفاء الامويون وما اقترفه السلطان مراد والصفويون ضد الشيعة أو السنة في العراق، والمذبحة التي نفذها الولاة العثمانيون بحق المماليك، فهذه الشواهد التاريخية تؤكد ان العراقيين لقرون طويلة وما زالوا ضحايا الاستبداد والعنف والقهر والقمع بما جعل العنف إرثاً ملازماً لهم، ابتداءً من حكم نبوخذ نصر، مروراً بمأساة كربلاء وقتل ابن بنت رسول الله بطريقة وحشية يعتصر لسماعها القلب . وطغيان الحجاج واستبداد المنصور والسفاح وهجوم المغول واستباحتهم لبغداد ، وكافة أشكال الاستبداد والقمع والحروب.

وما تلا ذلك من مقابر جماعية بحق الشعب في الانظمة الدكتاتورية السابقة، وقد أثبتت تاريخياً أن العنف في العراق جاء دائما من الأطراف، خاصة من جانب الجيوش الغازية من الشرق أو من القبائل البدوية من  الغرب. مثلما حصل في الغزو المغولي الهمجي لمدينة بغداد وصولاً الى الغزو الامريكي للعراق الذي هدم مؤسسات الدولة جيشاً وشرطة واقتصاد وانتهك حرمات التاريخ وسلب الخزائن التاريخية في المتاحف العراقية ليطمس الذاكرة الحضارية للعراقيين.

وفي الوقت الحالي أصبح هذا الفكر او العقيدة ان صح التعبير ينتقل من كونه طريقة سياسية للتمكن من مقاليد السلطة والاستحواذ عليها، الى عقيدة مزروعة في داخل الفرد العراقي. فاصبح لزاماً على من يرغب في الاستحواذ على عاطفة الجماهير التوعد بإبادة جميع من في السلطة في الوقت الحالي وانتزاع السلطة منهم بالقوة والحكم بالحديد والنار كما كان ذلك في الحكومات السابقة فيكسب بذلك عاطفة الجماهير الذين اصبحوا يسلكون سلوك الثأر والمزروع فيهم من خلال الجذور التاريخية كما اسلفنا سابقاً. ان هذا السلوك هو الذي يقف حائلا بين تقدم واستقرار العراق، فالحكومة ليست عصابة تقوم بإبادة وقتل جميع من سبقوها في السلطة، بل في تكوين قانون عادل يلتزم فيه جميع الافراد قانون لا تشوبه شائبة. 

ان سلوك العنف هذا الذي نشأ عليها الفرد وتعمق في دمائه واستفحل في الساحة السياسية للعراق الحديث تقترن بالتخلف والاستبداد وسيادة عقلية البداوة. كما وتمتد جذوره الى عمق التاريخ العراقي. ولا تقف معالجتها عند الحلول الآنية بالتطوير النوعي للعملية التعليمية والثقافية والاعلامية فحسب، بل تتطلب ايضا معالجات جذرية طويلة الامد لتمتد الى اعادة بناء اصول التنشئة والثقافة والتربية.

أقرأ أيضا