صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

سنوات الضياع قادتنا لـ…”حيرة”

كان هناك سؤال ملح حول سر متابعة المسلسلات التركية في فترة ظهورها الأول وحتى وقت متأخر، وبالخصوص المسلسلات الأولى التي ظهرت فجاة على القنوات العربية، وأتذكر ان اول واخر مسلسل تركي تابعته كان سنوات الضياع.

تعلقتُ بقصة المسلسل وتابعته بشغف حينها رغم أنه وكما المسلسلات التركية الباقية يغلب عليه طابع الطول بالمقارنة مع مسلسلاتنا العربية التي تقع في الغالب في 30 حلقة، حيث ان المسلسل بنسخته التركية تكون من 80 حلقة اما نسخته العربية المدبلجة فامتدت الى  150 حلقة.

لماذا تعلق الناس بالمسلسل رغم طوله؟

ما ميز التجربة التي واجهها المشاهد العربي تكمن في موضوع الاعتراض ذاته اي الطول، بالاضافة الى عوامل اخرى كانت حديثة على مخيلة المشاهد وذوقة وكذلك طريقة المعالجة لكن الطول كان عاملا ايجابيا باعتقادي.

أحببنا يحيى ورفيف ولميس لأن كتاب العمل من خلال استغلال مساحته استطاعوا ان يخلقوا علاقة وجدانيه بيننا وبين الابطال بما يطلق عليه الامتزاج الوجداني، بل وصلنا معهم الى لحظه المشاركة الوجدانية.

قصة الحب في مسلسلاتنا العربية حدث يجري خلال دقائق معدودة من عمر المسلسل رغم محاولات الكاتب ممارسة عملية ايهام المشاهد بزمن الحدث الدرامي والذي قد يعتقد بانه نجح فيه ولكنه في الحقيقة لم يفعل بدلالة عدم تحول الابطال في مسلسلاتنا الى رموز تشكل حضورا في الذاكرة الجمعية للمشاهد، سواء كانوا ابطال قصص حب او غيرها.

الحدث في مسلسلاتنا لا ياخذ حيزا في وجداننا لانه اسرع من ان يترك فيه اثرا يذكر او يحس، قصة الحب في سنوات الضياع كانت حقيقية هكذا شعرنا لان العلاقة بين البطل وبين المشاهد كانت مرسومة بشكل صحيح استطاع المولفون الاربعة ان يخلقوا علاقة وجدانية بيننا وبينهم حتى ان الكثير منا توهم بانه البطل وكأن قصة الحب محور المسلسل كانت حقيقية كاي قصة حب حدثت في احيائنا السكنيه وكنا شهودا على كل تفاصيلها او سمعناها في الواقع من اصدقاءنا الذين وكانوا هم ابطالها.

حين كانت كاميرا ايدين بولوت مخرج مسلسل سنوات الضياع تنقلها مع يحيى ورفيف في الحي البسيط كنا نعيش معهم ادق التفاصيل الى درجة انه اوهمنا باننا كنا نعيش في نفس المكان ذات الحدث بتفاصيله.

منذ عدة ايام كنت اشاهد بالصدفة حلقة من المسلسل العراقي حيرة على أم بي سي عراق فاجئني جدا الاستعجال في الاحداث الى درجة الهذيان غير المدروس وكان الصراع فيه من نوع الصراع المتوثب للوصول الى الصراع الاهم والحقيقي الاقوى الذي ستظهر  لاحقا.

في مسلسل “حيرة” وتحديدا في الحلقة التي يواجه فيها جمال والده عدنان بعد ان علم بنية الاخير تزويج فريدة من سليم، ثارت ثائرة جمال ليقرر في غمرة انفعاله وثورته ان يترك البيت بصحبة حبيبته. حتى هذه اللحظة هناك حدث عظيم وكبير وموثر بدأ يتسلل الى وجداننا، مشكلا بعدا عاطفيا قويا خصوصا بعد ظهور الاب ولحظه المواجهة التي تخيلت كمشاهد بأنها بداية لموجة عارمة من الاحداث قد تقود الى تعقيد اكبر وترسم خارطة علاقات جديده بين الاطراف المتصارعة لكن ماحدث كان ماساة حقيقية للاسف.

فبعد الماستر مشهد بين جمال وأبيه وفريدة وبحضور أم جمال وسهيل الذي يودي دوره الفنان حيدر عبد ثامر، كنا ننتظر ان يرحل جمال وينتهي المشهد على ذلك لا ان يعود كل شي الى ماكان عليه ويغير ابو جمال رايه في لحظه مفاجئة غير مبرره دراميا بشكل مسبق في ذهن المشاهد وغير مبررة منطقيا.

ما حدث لم يكن له اهميه ولم يترك الاثر الذي كان من المفترض ان يتركه لانه لم يمهل المشاهد استيعاب الحدث الدرامي ووفق منطق المبرر الدرامي المفقود مالذي دعا ابو جمال في لحظه ان يغير رايه. منطقيا لا يمكن لذلك ان يحدث مع غياب المبرر الدرامي ولم يكن هناك دافع سوى تعثر ام جمال التي لم يرسم لنا الكاتب طبيعة علاقتها مع ابو جمال على انها علاقة حميمة وكبيرة الى الدرجه التي يستطيع فيها ابو كمال ان يغير رأيه بلمحة بصر لمجرد رويتها ساقطة على الارض باكية.

كيف لأبو جمال وهو في حالة انفعال شديد ان يتمالك اعصابه ويغير رايه دون مقدمات دون احداث دون ضغوطات دون تاثير على حالتة النفسية. حدث كهذا حين يمر بهذه السرعه تسقط قيمته في التاثير الوجداني في وجدان المشاهد ولايعود له اهميه لانه غير منطقي . كي يغير ابو جمال رايه فهو بحاجه الى ابسط الاشياء وهو الوقت الذي يستغرقه اي شخص سوي في مراجعه ذاته وتقييم وضعه ومن ثم ياتي فعل التغيير مبررا.

 ماكان يحدث في مسلسل سنوات الضياع وما اعقبه من اعمال كان الكاتب فيها ينحت الاحداث ويضعها في قدح قدرته التخيليه ويقدمها لنا كمشاهدين بهدوء دون ان نشعر. فقد كانت القصة التي تسير بوتيرة كانها وتيرة الحياة رتيبة لكنها متذبذبة بايقاع يتصاعد ويتهاوى تغرق في وجداننا فلم تكن علاقة الحب عبارة عن لقاء عابر ومن ثم فراق لا اثر له في حسنا.

كانت القصة حاضرة في يومياتنا كانها قدر، وكنا نعيش مع الحبيبين كل تفاصيل الحياة من افراح وانتكاسات دون ان يستعجل الكتاب والمخرج الاحداث تحت تاثير حماس الكتابة لما هو قادم فقد يكون القادم في مخيلة الكاتب اهم بكثير من الحدث الحاضر، لكنه بذلك يلغي عملية  التفاعل والانصهار الكيميائي التي يقتضيها ان يعيش المشاهد قصة البطل ويشعر بانه هو فيمتزجان ويتماهيان لصبح مدى التاثير الوجداني عميقا.

هناك ايضا قصة اخرى تجري بوتيره بطيئة بمشاهد مكرره وهي قصة رويده وكمال فهي كالعادة جزء من الاحداث الاخرى تسير برفقتها دون خصوصية لكنهاىفقدت الكثير من مصداقياتها امام سؤال: هل يمكن ان يحدث هذا وهل يتوافق الحدث والصراع مع واقعنا العراقي بحيث لو سالت اي فتاة في الشارع عن تصرف رويدة إزاء ما اكتشفته ستقول بأنها ستتبناه بلا أدنى شك أم العكس صحيح لتختار أي فتاة عراقية مواجهة حبيبها بالحقيقة التي اكتشفتها ذلك ماسيحدث بكل بساطة.

ما دعاني للكتابة عن الحلقة التي شاهدت جزءا منها ليس للمقارنة بين عملين تم إنتاجهما في ظروف مختلفة، لكن المادة الخام تبقى واحدة وان اختلف مكان وامكانات الانتاج وانما لطرح تساولات مشروعه كمتفرج.

شي آخر مهم يلاحظه المشاهد بوضوح وهو وجود الكثير من المشاهد غير المبررة حيث تشعر بانها محشوه فقط للتطويل او لخلق فاصل زمني يتيح من خلاله الكاتب لبقية الشخصيات التقدم خطوه نحو الذروة تشعر بذلك من خلال عدم جدوى مايحدث في المشهد الذي يكون مقتضبا لا تتحدث فيه الشخصيات بما يجب ان يقال في حينه بل نذهب الى مشهد اخر لنعود الى ذات المشهد في حوار كان الاجدى انه قيل في المشهد السابق لانه يناسب الحالة.

أما الزمن فقد كان مرتبكا فهو في مكان ما يسير بسرعة البرق وفي مكان اخر يتوقف تماما وكاننا نعيش زمنين في نفس المكان بحيص تجري في مكان ما احداث تحتاج الى وقت طويل منطقيا وفي مكان اخر تمارس الشخصيه ذات الفعل في المشهد السابق وكان الزمن يجري هنا ويتوقف هناك دون مبرر كان يكون العمل مبني على هذا الاساس.

هناك الكثير مما يمكن ان يقال بخصوص هذا العمل فيما يخص إدارة الصراع، وطبيعة العلاقة بين الشخصيات، والمبرر الدرامي. والسوال الذي بقي بلا اجابة هل نعيش فعلا سنوات الضياع على كافة الاصعدة بما فيها الدراما؟

أقرأ أيضا