صحیفة متحررة من التحیز الحزبي
والطائفي ونفوذ مالکیها

سوريا الى أين (3-3)

رغم قساوة الاحداث وآلامها في غزة ووقع القصف الامريكي في اليمن وتداعياته غير ان عملية التغيير في سوريا منذ سقوط بشار الاسد في 8 كانون الاول/ ديسمبر 2024 ومآلاتها لاتزال تتصدر ايضا مشهد التطورات السياسية والعسكرية في المنطقة خاصة وان لسوريا موقعا جيوسياسيا ترتد تداعياته في اكثر من اتجاه وعلى اكثر من طرف اقليمي لجهة التأثيرات السياسية او التفاعلات الطائفية. 

ولعل تلك الاسباب جعلت من التغيير في سوريا حالة جدلية انقسمت حولها المواقف والاراء وحسب تفاوت الخلفيات المذهبية والسياسية والمصالح الاقليمية والدولية . لقد انقسمت هذه المواقف والاراء الى مؤيد ومناصر الى عملية التغيير وبين ومعاد لها ومابينهما موقف معتدل يقف الى جانبها ويساعدها ويدعمها ويراقبها على حذر على امل نجاح التجربة السورية وتشكيل نظام جديد يتسم بالمدنية والتعددية والاعتدال.

وتعني جدلية هذه المواقف والآراء ورغم تفاوت منطلقاتها انها تدور حول هوية عملية التغيير ومتبنيات قادتها الدينية ومآلاتها وعما اذا كانت تودي الى دولة دينية ثيوقراطية قد تقود الى نزاعات عرقية وطائفية تفجر سوريا وتهدد المنطقة . ويؤكد ذلك ان التحدي الكبير امام عملية التغيير في سوريا ومستقبلها هو هوية التغيير وجوهره وان اختيار هوية غير دينية وغير طائفية وتكريسها في شكل دولة مدنية تعددية هو الكفيل بتجنب حالة الشك والاتهام وعدم الاطمئنان وهو الذي تقع مسؤوليته على قادة عملية التغيير.

ومما لاشك فيه فان عملية التغيير في سوريا واسقاط بشار الاسد لم تكن انقلابا عسكريا او موأمرة انقلابية عابرة لمغامرين طامحين بالسلطة كما كان يقع سابقا في دمشق وغيرها من العواصم العربية وانما كان نتيجة طبيعية لمخاض عسير انتهى باسقاط نظام بشار الاسد بعمل مسلح واعلان ادارة جديدة لادارة الدولة بقيادة احمد الشرع والمعروف سابقا (الشيخ ابو محمد الجولاني) .

لقد بدأت التطلعات السورية الجماهيرية نحو التغيير والخلاص من دكتاتورية غاشمة في 2011 بحراك مدني سلمي لكن ضغط النظام وقسوته حوله الى عمل مسلح خالطته لاحقا مجاميع اسلامية ارهابية كثيرة كان في بعضها طعم ورائحة سياسات النظام السرية واجهزة مخابراته ورغبته في تشويه صورة الحراك الشعبي وشيطنته علاوة على تدخلات دولية واقليمية باهداف ودوافع مختلفة. 

في ذلك الحين ربما كان (ابو محمد الجولاني) جاهزا للدخول في هذا المعترك السوري المعقد، ذلك انه كان من ضمن الذين ذهبوا للعراق افرادا وجماعات بتسهيلات نظام بشار الاسد واجهزته المخابراتية التي فتحت الحدود السورية العراقية لدخول (المجاهدين) و(المجاميع الجهادية) لمحاربة الاحتلال الامريكي للعراق. ان وجود (ابو محمد الجولاني) في العراق سواء في عمله مع القاعدة او داعش وحتى دخوله السجن وفرت له تجربة ميدانية عسكرية وتنظيمية وادارية ممتازة ساعدته من اخذ موقع متميز بين الفصائل المسلحة ومعترك الازمة السورية عند عودته الى سوريا قادما من السجن في العراق .ولم يتأخر ابو محمد الجولاني من تأسيس جبهة النصرة ومن ثم اعلان الاستقلال عن القاعدة وتأسيس جبهة فتح الشام والتي تحولت لاحقا الى هيئة تحرير الشام والتي شكلت رأس الحربة في ادارة عمليات ردع العدوان التي دخلت دمشق بقيادة احمد الشرع في 8/ديسمبر/كانون الاول 2024 واسقاط نظام بشار الاسد . ان عملية ردع العدوان مرت في حركتها من ادلب نحو دمشق في محطات حلب وحماه وحمص وفي حلب ظهر ولاول مرة احمد الشرع من دون عمامة بيضاء مرتديا بزة عسكرية ولحية قصيرة مشذبة وباسمه الحقيقي احمد الشرع ليشكل ذلك علامة فارقة ربما هي مقدمة في تحول براغماتي من (الشيخ ابو محمد الجولاني) الى احمد الشرع، وتتابعت عملية التحول في الشعارات التي رافقت دخول المدن السورية بما في ذلك دمشق لاسيما شعار التسامح وليس الانتقام فيما تتابع التحول في المظهر الخارجي عند احمد الشرع عندما ظهر بالقصر الرئاسي وهو يرتدي بدلة مدنية ومن ثم ربطة العنق في صور اعتبرها البعض تحول براغماتي جاد فيما نظر اليها البعض الاخر بانها مجرد اجراءات شكلية بحاجة الى تطبيقات عملية على الارض. اذن تحدي الهوية لايزال قائما والمطلوب تأكيد التغير

الحقيقي في جوهر المؤسسة الجديدة الحاكمة في دمشق من طريقة الى اخرى ومن منهج قديم الى منهج جديد وروح جديدة في بناء سلطة جديدة في دمشق .

وفي هذا السياق اتخذ احمد الشرع فضلا عن خطاباته وتطميناته في حل الفصائل المسلحة وتأسيس جيش سوري جديد مع اطلاق مؤتمر حوار وطني ومن ثم اطلاق اعلان دستوري خاص بفترة انتقالية لمدة 5 سنوات وهي ذات قيمة عملية جيدة لانها من المفروض ان تقود الى تشكيل حكومة انتقالية تعددية على اساس المشاركة الواسعة . غير ان الذي حصل في الساحل السوري والمجازر البشعة التي حصلت للمدنيين العلويين على اثر المواجهات المسلحة بين فلول النظام السابق وقوات وزارة الدفاع علاوة على نقاشات الدروز الدروز والانقسام الحاصل في المجتمع الدرزي رغم التقدم بعض الشيء في الملف الكردي اكلت من جرف هذه الاجراءات الدستورية وقللت من بريقها وخففت من حالة الامل والتفاؤل التي سادت مما يعني الحاجة الى الى سياسات واجراءات غير عادية بمستوى التحدي ترسم هوية واضحة ومحددة للنظام الجديد تقلب الصفحة السابقة للفصائل المسلحة وتلغي هويتها القديمة التي كانت معروفة عنها رغم ان الوقت لايزال مبكرا وعمر التغيير قصير والعملية تحتاج الى المزيد من الوقت.

وفيما يُلاحظ ان بعض المواقف والانطباعات قد لا تتغير عن التغيير في سوريا لانها تتحرك من خلفيات مسبقة لكن يلاحظ ان المواقف الحذرة والمتفائلة تتعامل بشكل واضح وصريح وجدي مع الحالة السورية وكما هو في الموقفين الامريكي والاوربي والامم المتحدة ويراقبون ويتابعون ايضا ويقدمون الدعم والمساندة والمساعدة.

الامريكيون من جانبهم يساعدون دمشق في الملف الكردي وقد دفعوا باتجاه توقيع الاتفاق بين دمشق وقسد، فيما الاوربيون يقدمون الدعم والمساعدة وكما في مؤتمر المانحين الاخير في بروكسل والذي قدموا فيه اكثر من 6 مليار دولار ويعملون باتجاه رفع العقوبات عن دمشق كما ان الامم المتحدة تقدم المشاريع والمشورة في اتجاه البناء الدستوري الشامل الجديد .

ان الوجود الدولي وبهذه المستويات من المتابعة والمراقبة والتوجيه والمساعدة مع تجاوب و تعاون سوري جيد يشكل ضمانة كبيرة وامانا جيدا على احتمالات تجاوز تحدي الهوية وبناء نظام جديد يستجيب لمتطلبات السوريين واستحقاقهم في نظام سياسي بهوية مدنية لا دينية و تعددية لاطائفية ويستجيب لتحديات حقيقية.

أقرأ أيضا