نشرت مجلة “نيويوركر” الامريكية مقالا مطولا للصحفي الأمريكي المختص بشؤون الشرق الأوسط “ديكستر فيلكينز” حول طبيعة النظام الإيراني وصعود المرشد الايراني الأعلى علي خامنئي ومستقبل النظام في ظل المعارضة الداخلية ووباء كورونا، تنشر “العالم الجديد” ترجمته التي أعدها د. محمد المالكي على أجزاء:
الفصل الثالث: خامنئي يضرب الإصلاحيين (الحركة الخضراء)
في طهران قابلتني امرأة لطيفة ومتمكنة تم تعيينها من قبل معتمد حكومي لتكون مرشدتي اثناء الزيارة على ان زيارتي تقتصر فقط على ملاقاة اشخاص تحددهم الحكومة مسبقا وذلك يعني أن أكثر المحادثات المهمة كانت تلك التي أعددتها بمفردي، مع ايرانيين مستعدين للمخاطرة بعد أن تعود مرشدتي إلى بيتها في المساء. وفي الواقع لم يكن هناك الكثير من اولئك المخاطرين ففي وقت مبكر من زيارتي عرضت عليّ محامية من طهران تدعم بسريّة مبادرات حقوق المرأة، جمع ناشطات من أربع منظمات منفصلة. لكنهم في النهاية رفضوا جميعا الاجتماع بي مما حدا بالمحامية ان تعتذر: “أنا آسفة! ان الامر خطر للغاية.”
لكن المعارضين الذين خاطروا بمقابلتي حدثوني عن موجات الإصلاح والقمع المتعاقبة. وفي إحدى الليالي قابلت الصحفي والناشط بهمن أحمدي أموي في مطعم على وجبة من الكباب “كوبيده” وهي أكلة إيرانية شهيرة من لحم الضأن المفروم مع التوابل.
في أواخر التسعينيات عندما خفف خاتمي القيود على الصحافة كان أموي من أكثر المستفيدين من ذلك الانفتاح -كمراسل لصحيفة “همشهري”- حيث كتب سلسلة مقالات مفصلة عن كيفية استغلال رجال الأعمال وكبار المسؤولين الحكوميين الايرانيين للسوق المغلقة في البلاد لإثراء أنفسهم. ومن اهم تلك المقالات، تلك التي حققت في استيراد “التشادر” وهي عباءة تغطي جسم المراة من الرأس إلى أخمص القدمين ترتديها معظم النساء في ايران. قال “أمویي” لي: ”ان سبب ذلك هو أن الأشخاص الاكثر تاثيرا في الحكومة وخارجها يقومون باغناء انفسهم عن طريق الواردات ومن خلال منع المنافسة”. شاع ونوقش مقال أمویي في جميع أنحاء طهران وكان نقد الحكومة بذلك الشكل يعد ظاهرة جديدة وجريئة لا تخلو من البهجة. أضاف امویي قائلا بإن خاتمي لم يكن راضيا، لكنه ”كان يتحمل ذلك”.
كما غطى أمویي الانتخابات الرئاسية عام 2009 والتي كانت تمثل اختبارا صعبا لاحتفاظ خامنئي بالحكم حيث وضعت الانتخابات الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد ضد منافسه المحبوب شعبيا “مير حسين موسوي”. أعلنت السلطات فوز أحمدي نجاد فورا بعد غلق صناديق الاقتراع حتى قبل اكمال فرز الأصوات وعلى اثرها تدفق الإيرانيون وخاصة من الطبقة الوسطى المتعلمة إلى الشوارع للاحتجاج على نتائج الانتخاب وكان ذلك بمثابة البداية لما اصبح يسمى فيما بعد بالحركة الخضراء.
انضم أمویي وزوجته “جيلا بني یعقوب” (صحفية وناشطة في مجال حقوق المرأة) للتظاهرات. قال لي أمویي: “النظام سرق الانتخابات.. الشعب أراد استرجاع كرامته”. ولكن مع تزايد قوة الاحتجاج اجتاحت قوات الأمن المتظاهرين وقامت باعتقال وضرب الكثير وحتى قتل عدد منهم. أعرب في وقتها خامنئي عن أسفه للعنف لكنه عاد ليصرح أيضًا أن المتظاهرين قد ذهبوا بعيدًا جدًا وأضاف يصف المحتجين ”هؤلاء ليسوا على صلة بالمرشحين.. إنهم مرتبطون بالمخربين والمثيرين للشغب”.
في اليوم التاسع من الاحتجاجات جاءت الشرطة إلى منزل أمویي وألقت القبض عليه وعلى زوجته بحجة نشرهما دعاية معادية للنظام حُكم بعدها على جيلا بالسجن لمدة عام وعليه بخمسة. يقول امویي: “ان في الأشهر الثلاثة الأولى من سجنه كان محبوسًا في زنزانة انفرادية بحجم خزانة ملابس منزلية حيث كانت المصابيح مضاءة دائمًا ـ التعذيب الأبيض، على حد وصفه ـ لم أستطع الشعور بأي شيء، لم أستطع شم أي شيء. أردت فقط التحدث إلى شخص ما، ولكن لم يكن هناك أحد. كنت أتحدث مع نفسي وأحيانًا احس انني فقدت عقلي”.
وبعد مرور عشرة اشهر من المظاهرات كان موسوي لازال قيد الاعتقال مع أربعة آلاف متظاهر وقد قتل ما لا يقل عن سبعين شخصًا وتعرض كثيرون اخرين للتعذيب في السجون. كانت تلك الانتخابات والاحتجاجات بمثابة نقطة تحول في الجمهورية الاسلامية فبعد أشهر من المظاهرات انتشر على الانترنت فيديو مسرّب يظهر فيه قادة الحرس الثوري ومنهم الجنرال “محمد علي جعفري” قائد الحرس في ذلك الوقت قائلا: ”إن المشكلة ليست في منع الإصلاحيين من الاستيلاء على الرئاسة ولكن المشكلة أن الإصلاحيون قد تجاوزوا على مبادئ الثورة الاسلامية” وأضاف ”لقد كانت هذه بمثابة ضربة أضعفت الركائز الأساسية للنظام”. وقال ايضا: ”يبدو ان تلك الاحتجاجات قدمت للشعب الإيراني ”نموذجًا جديدا” ولم يعد بإمكان السلطة الحاكمة الاعتماد على الدعم الشعبي” وأضاف جعفري قائلا ”أي شخص يرفض فهم هذا الواقع الجديد لن ينجح.”
تم اطلاق سراح أمویي عام 2014 ومنذ ذلك الحين ضل ينتقل من وظيفة إلى أخرى حيث يعمل احيانا محررا وأحيانًا يكتب من غير عنوان ثانوي. وفي شهر ابريل تم نشر مذكرات أمویي ”الحياة في السجن” في الولايات المتحدة. سألته فيما إذا كان يشعر بالأمان في حديثه معي وفيما إذا كان يريد نشر اسمه في هذا المقال. لم يتردد ابدا حيث شدد: ”هذا من حقي”. بعد العشاء وبينما كنا بالسيارة في طريقنا إلى الفندق مررنا بتقاطع مروري مظلم وكان هناك مسلحين يسحبون السيارات جانبا ويقومون بتفتيشها. علق أمویي بقوله ”كل شيء يجري هنا له غاية واحدة وهو”ادامة حالة من الرعب”.
الفصل الرابع : الحرس الثوري قاعدة لحكم خامنئي
في الفترة الاولى لتسلمه مهام المرشد الاعلى لم يشكل خامنئي تهديدا حقيقيا لأحد أو لشكل النظام الذي خلفه الخميني بل على العكس ظهر خامنئي ضعيفا وفاقدا لاحترام زملائة من رجال الدين الكبار. ربما كان ذلك احد الاسباب التي دفعته للّجوء الى الحرس الثوري ومن اجل الحصول على دعمه سعى جاهدا للتعرف الشخصي على اعضاء الحرس والتقرب حتى للرتب الصغيرة والجنود من بين صفوفهم حتى انه قام بترقية عدد منهم الى رتب ضباط.
ومع مرور الوقت برزت السمات التي تميّز طبيعة حكم خامنئي واهمها ادارته للنظام بشكلٍ مجهري وتفصيلي ساعيا بالدرجة الاولى لكسب ولاء الجميع حيث قال عنه مهدي خلجي من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى: “خامنئي يحكم البلد بطاقة ونشاط ملحوظين وله علاقة خاصة بالحرس الثوري بحيث يتقصد معرفة اسماء كل ضباط المراتب الصغرى وحتى اسماء ابناءهم وفعلا جعل من الحرس الثوري القاعدة الاساسية لقوته ونفوذه وفي المقابل جعل الحرس من نفسه الموسسة الامنية العليا في البلاد.”
كان للحرس و البسيج (الميليشيا بملابس مدنية التابعة له) دور كبير بسحق المعارضة ـ حسب قول عباس ميلاني مدير برنامج الدراسات الايرانية في جامعة ستانفورد الامريكية وسجين سياسي سابق في ايران والذي قال ايضا: “الانتفاضة كانت بمثابة تطهير سياسي”. واضاف ميلاني: “من الواضح ان النظام يعتقد انه كان وشيكا على فقد السيطرة لولا تدخل الحرس والبسيج لانقاذه”. “والنتيجة ان بعد هذه الاحداث اكمل الحرس سيطرته و آلت له اليد العليا في البلاد وان خامنئي كان يدرك ان من غير الاستعانة بالحرس سيجد نفسه ملقى في الخارج في غضون 24 ساعة” . كما ان انتشار البسيج في كل ركن من اركان البلاد له دلالة ورمزية لمدى اختراق الحرس للحياة في ايران.
المعيار الآخر والاقل وضوحًا لمدى نفوذ الحرس هو تلاعبه بالاقتصاد الايراني فبعد ان سيطر رجال الدين على مقاليد الحكم وضعوا ايديهم على اهم القطاعات الاقتصادية وأهمها انتاج النفط والمصانع والموانئ. وخلال العقدين الاوليين من الثورة تم خصخصة عدد من الشركات الحكومية ولكن بدلا من ان تذهب الى رجال اعمال مهرة تم الاستحواذ عليها من قبل الحرس وشركائه. واليوم يعتقد ان عناصر من الحرس تسيطر على شركات البناء الكبرى وشركات تكرار النفط والمناجم بالاضافة الى مركز تجاري فاخر متكون من 19 طابقا في ارقى منطقة من العاصمة طهران. مع كل هذا لا احد يعرف بالضبط كم من الاقتصاد الايراني يسيطر عليه الحرس رغم ان التخمينات تضع الرقم بين 10 بالمئة واكثر من٥٠ بالمئة. في عام 2009 ظهرت احدى المؤشرات على ثروة الحرس عندما دفع ذراع الاستثمار التابع له مبلغ 7.8 بليون دولار كحصة كبرى في شركة الاتصالات الالكترونيك الايرانية رغم ان ميزانية الحرس المعلن عنها رسميا هي 5 بليون دولار فقط.
في داخل المجتمع الايراني اصبح الحرس الثوري نخبة يصعب المساس به اذ اصبح لديهم مدارسهم الخاصة واسواقهم الخاصة وأحياءهم ومنتجعاتهم الخاصة حيث ادلى ضابط مخابرات رفيع المستوى معني بالشرق الاوسط: “مناطق سكنى الحرس تبدو كانها نسخة طبق الاصل من بيفيرلي هيل. (مشيرا الى المنطقة الفاخرة في ولاية كاليفورنيا التي يسكن فيها اثرياء امريكا من الفنانين و السينمائين).
بعد توليه الرئاسة قام الرئيس الامريكي دونالد ترمب بجهود متواصلة تهدف الى تضييق الخناق على الحرس ففي عام 2017 قامت وزارة الخزانة الامريكية بوضع الحرس في قائمة المنظمات الارهابية وتعهد وزيرها ستيفن مونجن “بمواصلة التعرض لانشطة الحرس التدميرية” (على حد وصفه). ولكن العقوبات الاقتصادية اتت بنتائج عكسية كرست من سيطرة الحرس الذي استغل الحصار المفروض على التبادل التجاري مع إيران ليمكن الشركات التي يملكها باحتكار شبه كامل للسوق الايرانية. وفي الوقت الذي صعّدت الولايات المتحدة وحلفائها من مراقبتها على خطوط النقل بين ايران والعالم قام الحرس باحكام سيطرته على خطوط النقل البحري والمطارات حيث ازدهر تهريب النفط وتجارة المخدرات.
بعد ان تولى روحاني الرئاسة في ايران سنة 2013 أتخذ خطوات تهدف للحد من نفوذ الحرس اذ قام بمصادرة قسم من ممتلكاتهم التجارية مشجعا فكرة ان الجنود يجب عليهم “العودة الى ثكناتهم” كما قاد مفاوضات مع الغرب حول برنامج بلاده النووي الذي يشرف عليه الحرس. ولكن في النهاية انهارت كل هذه الجهود على اثر قيام الحرس بخطوات مضادة ففي عام 2017 قام عدد من المدعين العامين المقربين من الحرس بفتح ملفات جنائية ضد الموالين لروحاني شملت شقيق لروحاني نفسه الذي سجن على اثرها بتهم فساد.
بمرور الوقت ازدادت التوترات بين الحرس وروحاني حدة الى درجة ان عدد من مسؤولي النظام بدأوا بالحديث علنا عن جهود رامية لتحييد روحاني وفي شهر اغسطس من عام 2018 اشتكى خامنئي بخطاب له من “منتفعين يعملون في خدمة اعداء ايران” وبعد شهرين صرّح عزة الله ضرغامي وهو جنرال سابق في الحرس ورئيس حالي لوكالة الاعلام الايرانية بان عددا من رؤساء الشركات الرئيسية في البلاد كانوا يخططون “لتولي مسؤولية ادارتها بدلا من الحكومة”.
وعلى الرغم من فشل مثل هذه الجهود لكن الحرس واصل مساعيه للنيل من روحاني اذ ذكر لي مسعود بستاني وهو صحفي ايراني اودعته منشوراته المناهضة للحكومة السجن ثلاث مرات، بان الحرس كان يخطط في اواخر السنة الماضية لتجريد روحاني من معظم صلاحياته الرئاسية وأسرّ لي مصدر آخر مطلع على التفاصيل الداخلية للحرس بان ضباطا تابعين له كانوا يخططون لاعتقال حوالي 100 فرد من المقربين لروحاني.
ولكن قبل ان يحدث اي شيء من هذا، فاجأت حكومة روحاني بقرار القى البلاد في حالة من الفوضى ففي يوم 15 من شهر نوفمبر اعلنت الحكومة رفع سعر البنزين بنسبة 50% ورغم ان القرار أعلن بهدوء في منتصف الليل اثناء عطلة رسمية لكنه قوبل بهياج شعبي كبير خاصة ان الايرانيين كثيرا ما يستخدمون سياراتهم الخاصة في التنقل معتمدين على البنزين المدعوم حكوميا. في اليوم التالي بدأ المواطنون بالتوافد الى الشوارع منددين بالقرار بتظاهرة تعد الاكبر والاكثر شغبا منذ قيام الثورة.
يتبع….